مقالات

المزيج الذي يمنح الحيوية: الثقة لا تُشترى بالأموال وإنما تُبنى بالقيم

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

المزيج الذي يمنح الحيوية: الثقة لا تُشترى بالأموال وإنما تُبنى بالقيم

إن إدراك التنوع وإدارة الخلافات والأزمات يمثل جوهر النجاح والتنمية المستدامة. فالتنوع في الفكر والثقافة والتجربة الإنسانية ليس تهديدًا للوحدة، بل طاقة كامنة إن أُحسن توجيهها أصبحت مصدر إبداع وقوة اجتماعية واقتصادية وإدارية. أما الخلاف، فهو علامة على الحيوية لا على الضعف، شرط أن يُدار بعقلٍ راشدٍ وروحٍ متسامحةٍ ترى في الاختلاف وسيلة للتكامل لا سلاحًا للتناحر. فالمجتمع الذي يتعلم كيف يختلف دون أن ينقسم، وكيف يتحاور دون أن يتصادم، هو المجتمع القادر على النمو المستدام وبناء مؤسساتٍ راشدةٍ ومتوازنة.

ليس المطلوب أن نتشابه، بل أن نختلف ونظل بشرًا. ليس بالضرورة أن تفهمني، ولكن من الضروري ألا تؤذيني. ليس واجبًا أن نحب بعضنا، ولكن من الواجب أن نحترم وجود بعضنا. ففي زمن كثرت فيه الأسوار، فلنكن نحن الجسور. فالقوة الحقيقية ليست في رفع الصوت، بل في ضبط النفس، ولا في فرض الرأي، بل في اتساع القلب لقبول الرأي الآخر.

لقد دعا الإسلام إلى وحدة الصف وأدب الخلاف، فقال تعالى:

واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا” [آل عمران: 103].

وقال النبي ﷺ: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”.

وهذا جوهر التربية الإسلامية التي تجمع بين الإيمان والإحسان، وتضع الخلاف في موضعه الطبيعي: اختلاف تنوّعٍ لا تضاد.

من منظور علم النفس والاجتماع والإدارة، فإن إدارة التنوع والخلافات تمثل مهارة قيادية عليا، تتطلب فهم الدوافع العميقة وراء السلوك الإنساني، والقدرة على تحويل التوتر إلى تواصل. يشير “روجر فيشر” و”ويليام أوري” في كتابهما Getting to Yes إلى أن الحلول المستدامة تبدأ عندما نُفرّق بين الأشخاص والمشكلة، ونركّز على المصالح المشتركة بدل المواقف المتصلّبة.

وتُظهر التجارب الدولية أن المجتمعات التي تتبنى هذا النهج تحقق نتائج ملموسة. فقد نجحت سنغافورة في تحويل تنوعها العرقي والديني إلى قوة وطنية من خلال سياسات تعليمية وعدلية عادلة جعلت الكفاءة معيارًا لا الانتماء. أما رواندا، فبعد واحدة من أقسى الحروب الأهلية، استطاعت عبر آليات المصالحة المجتمعية أن تُعيد بناء الدولة والمجتمع على أسس العدالة والتسامح والمساءلة، فحققت خلال عقدٍ واحد معدلات نمو تجاوزت 7% سنويًا، وأصبحت نموذجًا عالميًا في إعادة الإعمار القائم على الثقة.

هذه النماذج تؤكد أن إدارة الخلاف ليست ميدانًا للعواطف، بل علمٌ يقوم على الوعي، والحوكمة، والإدارة السلوكية. فالمؤسسات التي تتبنّى سياسات تنوّع فعّالة تشهد زيادة في الإنتاجية والإبداع، وانخفاضًا في النزاعات الداخلية بنسبة كبيرة، بحسب تقارير Harvard Business Review والبنك الدولي واليونسكو.

إن تجاوز الخلافات بوعي وحنكة يعني أيضًا امتلاك أدوات الحوار المؤسسي، وتفعيل آليات الوساطة والتقييم الدوري، والاعتماد على لغة الاحترام بدل الاتهام. إن القائد الحقيقي هو من يمسك قلبه بدل أن يرفع صوته، ومن يحوّل لحظة الخلاف إلى لحظة تعلّم، لا إلى بداية خصومة.

ويشير علم الاجتماع الحديث، كما في أعمال “روبرت بوتنام”، إلى أن المجتمعات التي تنجح في بناء الثقة بين أفرادها تحقق مستويات أعلى من النمو الاقتصادي، لأن الثقة هي رأس المال الاجتماعي الذي لا تشتريه الأموال بل تُبنيه القيم. فالثقة هي القاعدة التي ترتكز عليها المؤسسات، والتنوع هو المزيج الذي يمنحها الحيوية، وإدارة الخلاف هي الآلية التي تضمن استمرارها دون تآكل.

إن الحلول لا تُبنى بالصوت العالي بل بالعقل الهادئ والنية الطيبة. والتقدم لا يأتي من تطابق الأفكار، بل من احترام اختلافها. عندما نحترم المختلفين ونفهم دوافعهم، ونبحث عن مساحات الالتقاء، ننتقل من إدارة الخلاف إلى إدارة الوعي، ومن إدارة الأزمة إلى صناعة الفرص.

توصيات لتعزيز إدارة التنوع وتجاوز الخلافات:

1. ترسيخ ثقافة الحوار في المناهج التعليمية لتربية جيلٍ يتقن الإصغاء ويحترم الاختلاف.

2. تأسيس مراكز وطنية ومحلية للوساطة المجتمعية تُسهم في حل النزاعات قبل أن تتفاقم.

3. إدماج سياسات التنوع في المؤسسات العامة والخاصة، وجعل العدالة معيارًا في التوظيف والترقي.

4. تدريب القيادات الإدارية على مهارات إدارة الخلاف باستخدام الذكاء العاطفي والتفاوض البنّاء.

5. إطلاق منصات حوار مجتمعي رقمية تجمع بين الأكاديميين والشباب والقيادات الفكرية بروح وطنية.

6. تشجيع مشروعات مشتركة بين فئات مختلفة لتعزيز الثقة من خلال العمل المنتج لا الشعارات.

7. تضمين مؤشرات الثقة والتعاون ضمن تقييم الأداء المؤسسي لقياس الانسجام الداخلي.

8. الاستفادة من التجارب العالمية الناجحة، وتطوير نموذج سوداني أصيل في إدارة التنوع قائم على القيم المحلية والوعي الجمعي.

إن إدارة التنوع والخلافات ليست مهمة إدارية فحسب، بل مشروع وطني وإنساني يعيد بناء المجتمع على أسس العدالة والتفاهم والوعي. فالمجتمع الذي يُدير تنوعه بذكاء هو المجتمع الذي يؤسس لتنمية متوازنة، ويمنع الأزمات قبل وقوعها، ويحوّل الاختلاف إلى وقودٍ للإبداع لا إلى نارٍ للخلاف.

إن الثقة لا تُشترى بالأموال، بل تُبنى بالقيم، وإن التنوع هو المزيج الذي يمنح الحيوية للأمم. وما اتفقنا عليه فلنتمسك به، وما اختلفنا فيه فليعذر بعضنا بعضًا، لأن الاختلاف لا يُفسد الودّ إذا صَحَّ المقصد وسمَت النية، ولأن بناء الثقة هو أول الطريق نحو السلام، والتنمية، والنهضة.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى