
حكايات من بحر أبيض
• في بحر أبيض حكاياتٌ كثيرة لم تُدون في الكتب، لكنها محفوظة في الذاكرة، حاضرة في الوجدان؛ كلمات صدقٍ ترجح كفة، وتقلب طاولة، وتُضحك وتعلم في اللحظة نفسها.
• نأخذ من بعضها زادًا للمجالس وعتادًا للونس، ونتأمل في بعضها، ونتألّم من بعضها — شخصي الضعيف وصاحبي أحمد حميدة أب شنب، زمل الدراسة، ورفيق الصبا والكهولة والشيخوخة بإذن الله، نرجع إليها، ونتسلى بها، ونحاول أن نفهم الدنيا من خلالها.
• في سبعينيات القرن الماضي، كان محمد السيد الشعار محافظًا لشمال بحر أبيض، واشتهر الرجل بقدرته على قراءة الناس، ونبل تقديره لحكمة الكبار.
• وكان اذا ما زار منطقة ما وتحدث عنها، تحدث عن رجالها و حكمتهم، فأشار في إحدى زياراته للعبيد ود مرجى، أحد الكبار، كبار السن، وهو رجل بسيط لا يحمل الألقاب لكنه يحمل بصيرة نادرة. ثم قال: هذا الرجل قال كلمة لو قالها دكتور أو بروفيسور لسجلها التاريخ.
• وروى قصة طريفة عميقة المعنى. قال إنهم كانوا في مجلس المحافظة يناقشون إنشاء دار للرياضة في مدينة الدويم، فطُلب رأي العبيد ود مرجى، قال فوقف العبيد ثم قال بهدوء: أنا بقترح نضيف للموضوع مدرسة للكدّابة. والكدابة قرية صغيرة في شمال بحر أبيض.
• هنا ضج المجلس بالضحك، وكأن الرجل خرج عن الموضوع. لكن العبيد لم يتراجع، بل رفع رأسه وتابع: يا جماعة، الموضوع في أولو وآخرو أولادنا. إنتو دايرين تشوفو أولادكم في حوش الكورة، وأنا داير أشوفن في المدرسة. الموضوع واحد. وعشان الضحكة دي… يا نفصل مجلس المدينة من مجلس القرية، يا نتكلم بندية وحرية.
• هنا صمت المجلس، وبدأ جدل امتد من الدويم إلى الخرطوم، حتى انتهى بفصل مجلس المدينة عن المجالس الريفية.
• وهكذا، بكلمات هادئة من رجل بسيط، انقلبت الطاولة وتغيّر مسار الإدارة المحلية.
• لم تكن المسألة ملعبًا أو مدرسة فحسب، بل رؤية: أن التنمية تبدأ من الإنسان، ومن حقّ القرية أن تفكّر لنفسها، لا أن تضحك عليها المجالس.
• وبالفعل… من ذلك اليوم بدأت قصة استقلال المجالس الريفية عن مجلس المدينة — وكلها خرجت من فم العبيد ود مرجي.
• وبمثل ما صنعت كلمة العبيد ود مرجي فرقًا في مسار الإدارة المحلية، وقلبت طاولتها، وأثبتت أن الحكمة لا تحتاج لقب ولا منصب، ظهرت بعد سنوات قليلة حكاية أخرى — في مكان آخر من السودان — تُذكرنا بأن الكلمة الصائبة قد تأتي من غير المتوقع، وتقلب الموازين والطاولات بذات الهدوء والصلابة.
• في عام 1973، وبعد أن فُصل أبشنب من مدرستنا الثانوية في بحر أبيض عقب الإضراب الشهير الذي أُلصقت به تُهمة تدبيره وقيادته بصفته رئيس اتحاد الطلاب — دون ذنب — قادته الأقدار ليكمل دراسته بمدرسة الجيلي الثانوية بالخرطوم. وفي تلك الفترة، زارت الدكتورة فاطمة عبد المحمود — الوزيرة المايوية — المدرسة ضمن برنامج سياسي في المدينة.
• وفي أمسية خطابية داخل المدرسة، تحدثت الوزيرة بثقة وفصاحة عن ثورة مايو، ودورها في “تحرير المرأة السودانية”، من قيود العادات الضارة، وعن أن مايو — كما قالت — هي التي علمت المرأة العمل ودفعتها لمشاركة الرجل في أعباء المعيشة والأسرة.
• كانت الوزيرة شابة، واثقة، شامخة بشهاداتها وسلطتها. غير أن القدر كان يُخبئ لها مفاجأة من ابن قريتها نفسها: الأستاذ عجبنا، وهو — كما يُقال — ابن بلدتِها و”قرعتها، وربما كان ولي أمرها يومًا.
• ما إن فُتحت الفرصة للمداخلات حتى صعد عجبنا للمنصة. بدأ بكلمات ترحيب وتقدير، ثم قال بصوت هادئ وحازم: لكن.. ثم أخذ يفند ما نسبته الدكتورة الوزيرة من فضل لمايو في تعليم المرأة العمل.
• وساق شواهد حية من الريف السوداني: عن النساء وهنّ يشيلن همّ اليوم، ويفزعن للغابة لجمع الحطب — من فروع صغيرة للشاي إلى عيدان كبيرة العواسة، وعن مشاركتهن في الزراعة منذ التيراب، مرورًا بالنظافة، والحصاد، ولقيط الطماطم، ولقيط القطن، وقطع العيش، وإطعام العمال. ثم ذكر المشاريع والغابات بأسمائها واحدةً تلو الأخرى.
• وختم قائلاً: أنا لحد هسع ما مرقت من ريفي الخرطوم… ما أظن محتاج أتكلم عن دارفور وكردفان، والإنجازات الحقيقية العملتا النسوان من زمن.
• صمت القاعة، والتفتت الأنظار نحو الوزيرة، التي لم تفقد ابتسامتها. ابتلعت الموقف برحابة صدر، وقالت ضاحكة: عجبنا الحارقو قاعد ساعتين يسمع لي… زمان لو دايرين نتكلم مع جاراتنا انهرنا. الكلام القالو دا كلو صاح، وأنا كلامي سمعو بأدب واحترام… وفايت أضانُو بي غادي.
• يا لها من لحظة جميلة من زمنٍ كان فيه الخلاف لا يفسد الاحترام، وكانت الكلمة تتزين بالأدب حتى وهي تخالف وتنتقد. زمنٌ عرفنا فيه قيمة الحجة، وسمو الحوار، وارتفاع المقام دون تعالٍ ولا تجريح.
• لكن ليس كل المواقف كانت مشرقة بذات القدر، فالتاريخ لا يصنعه العدل وحده، بل تضيئه المواقف النبيلة وتُفضح فيه أيضًا لحظات الاستعلاء وسوء التقدير.
• بعد سنوات من حكاية الجيلي، جاءت واقعة أخرى — من بحر أبيض هذه المرة أيضاً، حينها راودت والي الولاية فكرة وُصفت يومها بالجريئة: الدخول في شراكة مع دولة أجنبية لتنفيذ مشاريع تخص الولاية، من غير الرجوع للمركز—تمامًا كما نرى هذه الأيام في بعض ما تفعله بعض الولايات مع جهات خارجية، كإقليم النيل الأزرق مثلاً.
• الوالي، متحمسًا للفكرة، شدّ ركابه واستعد للسفر. وفي غمرة الإجراءات، وصلت الأخبار إلى أحد الكبار النافذين في الخرطوم. الرجل لم يتردد؛ استدعاه ومنعه من السفر فورًا.
• حاول الوالي الدفاع عن موففه، وقال بكبرياء منصبه: أنا والٍ… وما مفروض أستأذن إلا من الرئيس.
• لكن ذاك الكبير، نظر إليه بخبرة دولة وميزان كلام لا يعرف المجاملة، وقال له بنبرة هادئة جملة أصبحت غصة في قلوبنا نحن أبناء بحر أبيض، وفي قلوب كل من بلغته من أهله: “إنت قايل نفسك والٍ؟… إنت والٍ بجر أبيض.
• وهكذا، انطفأت الفكرة قبل أن تقلع الطائرة، وبقيت الكلمات أشبه بسهام ناعمة؛ تجرح وتؤلم، نعم… لكنها تعلّم أيضًا.
• هذه هي بحر أبيض التي أنجبت ود مرجي؛ بساطة الظاهر ووقار الباطن وصدقٌ لا يتلعثم.
• وعلى الجانب الآخر، جلس على كرسيها من زلّت قدمه قبل أن تُقلِع طائرته، فبقيت الواقعة شاهدًا عليه لا لها؛ ندبة صغيرة، لكنها لا تُنسى.
آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق.




