مقالات

الرجل الذي شقَّ طريقه في الصحراء

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

الرجل الذي شقَّ طريقه في الصحراء

في عمق صحراء الربع الخالي، حيث لا يُسمع سوى أنين الرياح وعزف الرمال، ووهج الشمس الذي يلسع الوجوه كما يلسع الحديد المحمّى، خرج “سالم” من بين السراب كأنه أحد أبناء الأسطورة. أسمر اللون، عريض الكتفين، في عينيه بريق تحدٍّ يلمع كوميض البرق في ليلة مقمرة. كان الناس يلقبونه “عنتر الصحراء”، لكنه لم يكن فارسًا بسيفٍ أو رمح، بل كان يحمل حلمًا أكبر من كل الرمال الممتدة أمامه.

كبر سالم يتيمًا فقيرًا، يرعى الإبل ويجمع الحطب ليلاً ونهارًا، لكنه كان يحدّق في الأفق وكأنه يرى شيئًا لا يراه الآخرون. كان يقول دائمًا لأصدقائه في البادية:

“واو! يومًا ما راح تمر سفن بين هالرمال!”

فيضحكون، ويقول أحدهم: “أووو ماي جات، أنت جُنّيت يا سالم؟ البحر بعيد!”

فيبتسم سالم ويجيبهم: “ما في شي بعيد على اللي يحلم صح.”

مرت السنوات، وهاجر سالم إلى المدينة. درس الهندسة المدنية كان يسهر الليالي، يعمل نهارًا في مواقع البناء، ويكافح ليجمع ما يكفي لتغطية مصاريف دراسته. لم يكن الطريق مفروشًا بالورود، بل بالشوك والإهانة والفقر، لكنه كان يؤمن أن “الرمال يمكن أن تُروى إذا آمنت بها”.

وفي يوم من الأيام، وبينما كان يعمل على مشروع بحثي ضخم عن تحويل الصحراء إلى ممر مائي، التقى بها — “ليان”، فتاة بيضاء البشرة، عيونها خضراء كلون واحات النخيل، تنتمي إلى عائلة ثرية من المهندسين والمستشارين. كانت ليان مختلفة؛ كانت تؤمن أن اللون لا يصنع الإنسان، بل القلب والعقل معًا.

أعجبت بذكائه وطموحه، وقالت له يومًا:

“لونك مثل الشوكولاتة، وأنا أعشق الشوكولاتة!”

ضحك وقال: “ما شاء الله، لو كل البنات يحبّن الشوكولاتة مثلك، كان ما بقى رجل مظلوم في الأرض!”

لكن طريق الحب لم يكن سهلاً؛ فوالدها رفضه بحجة “الفرق الاجتماعي”، وأمها خافت “كلام الناس”. عانى سالم كثيرًا، وكان يمكن أن يستسلم، لكنه لم يُخلق ليستسلم. قرر أن يُثبت للعالم كله أنه ليس مجرد “شاب أسمر فقير”، بل “رجل يصنع التاريخ”.

عاد سالم إلى حلمه القديم: أن يشق قناة عبر الصحراء تربط بين الخليج والبحر الأحمر. قدم فكرته في مؤتمر هندسي، فكانت الصدمة — أعجب بها كبار المسؤولين، وتحولت فكرته إلى مشروع وطني عملاق. عمل لسنوات بلا كلل، يقود فرق المهندسين والعلماء، حتى بدأ أول مجرى مائي يشقّ الرمال، وكأن الحلم القديم صار يجري ماءً حيًا.

وحين تدفق أول تيار مائي في القناة الجديدة، دُعي سالم لحفل الافتتاح، وكان من بين الحضور ليان ووالداها. اقترب منه والدها وقال بصوتٍ تغلبه الدهشة والإعجاب:

“يا بني… لقد صنعت المستحيل. شققت البحر من الرمال. أنت الرجل الذي ظنناه لا يليق بابنتنا، لكنك الآن تليق بتاريخ وطنك كله.”

ابتسم سالم، والتفت إلى ليان التي كانت تهمس بدهشة:

“أووو ماي جات! فعلتها يا سالم!”

ضحك وقال لها:

“ما قلت لك؟ حتى الصحراء تعرف طريقها إلى البحر إذا صدق الحلم.”

تزوجا في حفلٍ بسيط على ضفاف القناة التي أصبحت تُعرف باسم “قناة الحياة”، ووقف الناس يصفقون لذلك الشاب الأسمر الذي حول الحلم إلى واقع، والرفض إلى احترام، والحب إلى أسطورة تُروى للأجيال.

إن النجاح لا يولد من الحظ، بل من الإصرار والإيمان بالنفس، وإن الجغرافيا مهما كانت قاحلة، يمكن أن تُثمر إذا وجدت الإنسان الذي يرى فيها ما وراء الرمل. فكل مشروع عظيم بدأ بحلم صغير، وكل من وُصف يومًا بأنه “مجنون”، ربما يكون أول من رآه الله “مؤمنًا بما لم يُرَ بعد”.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى