
الصمغ العربي… ثروة منهوبة وصمتٌ يثير التساؤلات
في ذكرى الدكتور موسى كرامة: نموذج الإدارة الرشيدة في الصمغ العربي
• تناقلت الأخبار هذا الأسبوع عن تزايد تهريب كميات من الصمغ العربي عبر الحدود إلى دول الجوار بدعم وتمويل من تجار أجانب.
• هذه الأخبار ليست جديدة، فقد وثقتها تقارير رويترز وبلومبيرغ ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) خلال العامين الأخيرين، محذرة من فقدان السودان السيطرة على أحد أهم موارده الطبيعية.
• أشارت رويترز (مارس 2025) إلى تهريب كميات كبيرة من مناطق خارج سيطرة الدولة، بينما نبهت بلومبيرغ إلى أن مجموعات مسلحة تفرض رسوماً على شاحنات الصمغ، ما يعكس ضعف الحوكمة. أما الفاو فدعت إلى تعزيز الشفافية وتمكين المنتجين.
• في الداخل، كررت المصادر الصحفية المحلية نغمة الإحباط نفسها: خسائر بملايين الدولارات، تهريب متزايد، وتشتت السياسات بين الجهات الرسمية.
• النشاط غير الرسمي يمنح المنتجين بعض المال ويحافظ على الطلب الخارجي، لكنه لا يعوّض عن الأضرار الكبيرة للاقتصاد الوطني.
• السودان، الذي ينتج نحو 80% من الصمغ العربي في العالم، يفقد مكانته الأولى لصالح دول الجوار التي تعيد تصديره بأسماء مختلفة، لتذهب العائدات إلى غيره.
• للصمغ العربي تقاليد راسخة في التنظيم والتسويق تعود لأكثر من قرن.
• في عام 1922، أُدخل نظام المزادات (الدخوليات) لضمان أسعار عادلة للمنتجين وتقليل تحكم الوسطاء.
• في عام 1962، تشكلت لجنة استشارية لتحديد الأسعار ومراقبة الأسواق وضمان توزيع العائدات بعدل بين المنتجين والمصدرين وتعظيم حصيلة الدولة.
• كانت اللجنة تجتمع سنوياً في سبتمبر لتقدير الإنتاج والطلب العالمي، وتحديد وإعلان الحد الأدنى للأسعار محلياً وللتصدير، ثم متابعة عمليات الإنتاج والصادر بدءاً من أول شحنة إلى أوروبا في ديسمبر، بما كان يعرف بـ “هدية عيد الميلاد Christmas Gift”.
• تلي ذلك إنشاء هيئة “التركيز” التي اعتمدت احتياطياً خاصاً يُعرف بـ”مال التركيز”، لضمان شراء الفائض الصمغ في الأسواق بأسعار عادلة، يمول من عائد رسم يُفرض على كل قنطار يُشترى داخل الدخوليات.
• رغم نجاح هذه الآليات في حماية المنتجين وتحسين التسويق الداخلي، إلا أنها فشلت في رفع العائد القومي بسبب ضعف التنسيق والمنافسة الضارة بين المصدرين.
• لتجاوز هذه الثغرات، أُنشئ نظام الامتياز وشركته عام 1969 لتتولى تنظيم التجارة وضمان استقرار الأسعار وجودة المنتج وتعظيم عائد الدولة من العملات الصعبة.
• وحين تم إلغاء نظام الامتياز في عام 2009، وتم تحرير الصمغ العربي إنتاجاً وتجارة وتسويقاً، أُنشئ المجلس القومي للصمغ العربي ليكون المرجعية العليا للقطاع، يتولى الرقابة والتنسيق ووضع السياسات.
• تُظهر البيانات الحديثة أن السودان ما يزال يحتفظ بدوره كلاعب رئيسي في سوق الصمغ العربي العالمي، إذ بلغت قيمة صادراته نحو 141 مليون دولار عام 2023 بحسب موقع OEC World .
• وعلى الصعيد الدولي، قُدّرت قيمة تجارة الصمغ العربي بحوالي 1.01 مليار دولار في العام نفسه، وفقاً لبيانات Market Data Forecast.
• تؤكد هذه الأرقام أن القطاع يملك إمكانات ضخمة يمكن أن تتحقق بإدارة وتسويق فعّالين.
• رحم الله الدكتور موسى كرامة، فقد شهدت شركة الصمغ العربي في عهده واحدة من أنجح فتراتها.
• ضاعفت قيمة سهمها إلى ثلاثة أضعاف قيمته الأصلية، وبلغ مخزونها من صمغ الهشاب وحده أكثر من 31 ألف طن. كما كانت تملك ثلاثة مصانع في الخرطوم وبورتسودان.
• لمواجهة التهريب، أنشأ فروعاً ومخازن في تشاد، ولتعزيز ثقة المستوردين الخارجيين أقام مخزوناً استراتيجياً في دبي (جبل علي).
• في تلك الفترة لم تكن على الشركة ديون تُذكر سوى نحو 18 مليار دينار، وكان مخزونها من الصمغ كفيلاً بتغطيتها وزيادة.
• لقد مثل عهده نموذجاً نادراً للإدارة الرشيدة التي جمعت بين الرؤية الاقتصادية والحرص الوطني على مورد ظل عنواناً لاسم السودان في العالم.
• اليوم، يثير غياب المجلس المجلس القومي للصمغ العربي، الجهة التنسيقية والتنظيمية العليا المسؤولة عن تطوير القطاع وحماية هذه الثروة وتنميتها، عن المشهد تساؤلات عديدة حول فاعليته وجدوى وجوده، في وقت تتزايد فيه تحديات التهريب والتراجع الإنتاجي.
• الصمغ العربي ليس مجرد منتج تصديري، بل جزء من ذاكرة السودان البيئية والثقافية. إنقاذه ليس ترفاً اقتصادياً، بل استرداد لحق وطني في مورد عالمي اقترن اسم السودان به.
• حقاً، ما يبعث على الحيرة أن تُهرب ثروتنا الوطنية على مرأى الجميع، رغم خبرتنا وتجاربنا الطويلة في المضمار.
• ما يحدث اليوم ليس أزمة إنتاج أو تسويق فحسب، بل أزمة ضمير وغياب إرادة وطنية تجاه موردٍ ظل لعقود عنواناً لاسم السودان في العالم.
• ولعل ما قاله حكيم المعرة وفيلسوفها قبل قرون يعبر خير تعبير عن حالنا اليوم:
من ساءه سببٌ أو هاله عجبٌ … فلي ثمانون عاماً لا أرى عجبا
الدهر كالدهرِ والأيام واحدة … والناس كالناس والدنيا لمن غلبـا
آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق.






