مقالات

الأثر النفسي للصراع والعنف على الأطفال في السودان: رؤية استراتيجية تربوية واجتماعية

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

الأثر النفسي للصراع والعنف على الأطفال في السودان: رؤية استراتيجية تربوية واجتماعية

الأطفال السودانيون ليسوا مجرد ضحايا، بل شركاء في صنع مستقبل البلاد. إن الاستثمار في صحتهم النفسية اليوم هو ضمانة لسودانٍ مستقرٍ غدًا. ما نشهده اليوم هو أزمة تربوية ونفسية واجتماعية، تتطلب تدخلًا استراتيجيًا شاملًا من الدولة، والأسر، والمؤسسات التربوية. فالأطفال لا يعيشون في عزلة عن بيئتهم، بل هم أول من يتأثر، وأطول من يدفع الثمن. إن تجاهل هذه الآثار يعني توريث أزماتنا للأجيال القادمة، وبناء مجتمع مشوه نفسيًا وتربويًا. يجب أن نرفع شعار: “لا لضياع طفولة جيل”.

في صباح عادي بمدرسة أساس في إحدى مناطق العاصمة، وبينما كنت أرافق ابني، استوقفني مشهد في ميدان المدرسة: مجموعة من الأطفال انقسموا إلى فريقين في لعبة أشبه بالمسرحية. أحد الفريقين يمثل “الثوار” يقيم المتاريس والحواجز، والفريق الآخر يمثل “الشرطة” يتصدون لهم بالهراوات والغاز المسيل للدموع. لم يكن ذلك مجرد لعب بريء، بل انعكاس لما تختزنه ذاكرة الطفولة من مشاهد العنف اليومي في الفضاء العام، والتي أصبحت جزءًا من وجدانهم التربوي والسلوكي.

أحد الأصدقاء المغتربين في الخليج، كان قد أحضر أبناءه من السودان للاقامة و الدراسة بالمدارس، وفوجئ بأن ألعابهم وسلوكهم تغير تمامًا. أصبحوا يتخيلون أنفسهم في معارك، ويتبادلون أدوار القناصة والمطاردين. أدرك الأب حجم التأثير النفسي العميق للصراع على أبنائه، فقرر أن يغير هذا المسار. أخذهم في نزهة مفتوحة، نظّم لهم يومًا للعب وكرة القدم، واستأجر سيارات صغيرة تنقلهم بين الأنشطة. وخلال ساعات، بدأت تلك الملامح القاسية تتبدد، وعاد الضحك والمرح إلى وجوههم.

ما حدث في مدرسة العاصمة السودانية، وما عاناه أبناء الصديق المغترب، ليس سوى نموذجين صغيرين لأزمة عميقة تهدد مستقبل جيل كامل. فالأطفال في السودان، وسط استمرار الصراع والعنف، لم يعودوا مجرد متفرجين، بل تحولوا إلى ضحايا نفسيين يحملون جراحًا غير مرئية قد تتحول إلى سلوكيات عدوانية، أو قلق مزمن، أو حتى انهيار في الهوية الاجتماعية.

المشهد الأكثر قسوة هو تطبيع العنف في حياة الأطفال، حيث تحولت الألعاب من “الاستغماية” و”كرة القدم” إلى محاكاة المعارك والاعتقالات. لكن تجربة الأب المغترب تثبت أن إعادة بناء الذاكرة العاطفية الإيجابية ممكنة، عبر خلق مساحات آمنة، كالملاعب والنوادي المدرسية التي تشجع على الإبداع واللعب البريء، وتطبيق برامج نفسية تستخدم الفنون والرياضة لإخراج الأطفال من دائرة الصدمة، بالإضافة إلى تدريب الآباء على كيفية التعامل مع المؤشرات النفسية مثل الخوف المفرط أو العدوانية.

لا يمكن فصل العلاج النفسي عن إصلاح البيئة المحيطة، وهذا يتطلب وجود مؤسسات تربوية فاعلة تُدمج التربية النفسية في المناهج عبر أنشطة تعزز التسامح والحوار، وتدريب المعلمين على كشف علامات الصدمة وتقديم الدعم الأولي. كما ينبغي سن قوانين تحظر تجنيد الأطفال أو استخدامهم في الخطاب العدائي، وتعويض المناطق الأكثر تضررًا بمراكز دعم نفسي متنقلة. ويجب أن يسهم الإعلام والمحتوى الرقمي في محاربة ما يروج للعنف، من خلال تقديم بدائل ترفيهية إيجابية.

الحد من الآثار ليس كافيًا، بل يجب بناء مناعة نفسية لدى الأطفال، من خلال تعزيز الهوية الإيجابية وربطهم بتراث السودان الثقافي الغني بعيدًا عن خطاب الكراهية، إضافة إلى تمكين الأسرة اقتصاديًا، حيث يزيد الفقر من قابلية الأطفال للاستقطاب العنيف. كما أن التعاون مع منظمات مثل اليونيسف يمكن أن يسهم في تنفيذ برامج إعادة التأهيل الطويلة المدى.ة من الحزن وخيبة الأمل بين كثير من الأسر، خاصة ممن لم يتمكن أبناؤهم من تحقيق نسب تؤهلهم لدخول كليات الطب. كانت النسب ما بين 90% و75% تُعد صادمة في نظر أولئك الآباء الذين اختصروا النجاح في تخصصٍ بعينه. غير أن موقفًا بسيطًا في حينا لفت انتباهي وغير نظرتي تمامًا:

 

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى