مقالات

تأثير الوعي الوطني في الحفاظ على الوطن من التمزق وخروج دارفور وكردفان من المعادلة

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

تأثير الوعي الوطني في الحفاظ على الوطن من التمزق وخروج دارفور وكردفان من المعادلة

يشكّل الوعي الوطني قاعدة الهوية الجمعية ومصدر القوة الحقيقي الذي يمنح الشعوب القدرة على البقاء متحدّة رغم العواصف والأزمات. فالهوية ليست شعارًا ثقافيًا أو انتماءً جغرافيًا فحسب، بل هي عقل جمعي يتجسد في منظومة قيم وسلوكيات ومعتقدات، تتجاوز الفرد إلى الجماعة، والمصلحة إلى المصير. هذا العقل الجمعي حين يتكوّن بوعيٍ ومسؤولية، يصبح كتلة صلبة تُقاوم محاولات الاختراق والانقسام، ويغدو الوطن عندئذ فكرةً متجذّرة في الضمير قبل أن يكون خارطة على الورق.

إن التجربة الإنسانية تثبت أن الأمم التي تمتلك وعيًا وطنيًا ناضجًا تستطيع الصمود في وجه التمزق مهما كانت الفتن الداخلية أو الضغوط الخارجية. فقد شهد العالم نماذج عديدة لبلدانٍ كادت أن تتفكك بفعل التوترات العرقية أو الجهوية، لكنها استعادت وحدتها عبر بناء وعيٍ مؤسسي يقوم على العدالة والمواطنة والتنمية المتوازنة. رواندا مثلًا خرجت من جحيم الحرب الأهلية لتتحول إلى نموذج للوحدة والإصلاح، لا لأنها امتلكت ثروة هائلة، بل لأنها أعادت بناء وعيها الجمعي على أسس إنسانية واستراتيجية متكاملة. وماليزيا بدورها تجاوزت الانقسامات العرقية بتأسيس مشروع وطني للتنمية الشاملة، جعل كل مكوّنٍ من مكونات المجتمع شريكًا حقيقيًا في البناء، لا تابعًا أو مهمشًا.

بهذا الفهم، يصبح الوعي الوطني مشروعًا اقتصاديًا واجتماعيًا وإداريًا ودبلوماسيًا في آنٍ واحد. فهو لا ينفصل عن مفهوم العدالة في توزيع الموارد، ولا عن بناء مؤسساتٍ قادرة على إدارة التنوع باحترافٍ وعدالة، ولا عن ترسيخ ثقافة المشاركة في اتخاذ القرار. فالوطن لا يتماسك بالشعارات، بل بالتنمية العادلة التي تشعر كل إقليم بأنه جزء من المعادلة، لا هامشٌ خارجها. عندما تُدار الدولة بعقلٍ استراتيجي يُراعي توازن التنمية بين المركز والأطراف، تُغلق أبواب التمرد والانفصال، وتُبنى الثقة بين المواطن والدولة على أسس واقعية لا وعودٍ مؤجلة.

أما في السودان، فإن ما حدث في دارفور وكردفان ومناطق أخرى من احتقانٍ سياسي واجتماعي لم يكن وليد لحظة، بل نتاج تراكم غياب العدالة وضعف الوعي الوطني في إدارة التنوع. لم يكن الخلل في الانتماء أو في الفكرة الوطنية ذاتها، بل في الممارسة الإدارية التي قصّرت في ترجمة مبدأ المساواة إلى واقعٍ تنموي ملموس. فالوعي الوطني ليس ما يُقال في الخطب، بل ما يُترجم في القرارات والمشروعات والسياسات العامة. ولو أُديرت موارد السودان بعقلٍ إداري متكامل يُدرك أن كل منطقة هي استثمار وطني لا عبء على المركز، لكانت دارفور وكردفان في مقدمة النهضة، لا على هامشها.

لقد ظلّت فكرة السودان الواحد عصيّة على الانقسام لأنها تتكئ على تاريخٍ طويل من التعايش الاجتماعي والثقافي. فالتنوع السوداني، على اتساعه، هو طاقةٌ كامنة إذا أُحسن توظيفها تحولت إلى مصدر وحدة، لا صراع. الهوية السودانية الحقيقية ليست هوية جهةٍ أو قبيلة، بل هوية تكاملٍ إنسانيٍّ يجمع العربي والأفريقي، المسلم والمسيحي، الريف والحضر، في مشروعٍ واحدٍ للتنمية والسلام.

من هنا، فإن الحفاظ على وحدة السودان ليس مهمة سياسية تُدار بالأحزاب، بل مسؤولية استراتيجية تُبنى بالوعي والمؤسسات والتعليم والإدارة الرشيدة. فالمواطنة المتساوية تُعزّز الشعور بالانتماء، والحوكمة العادلة تُقوّي الثقة في الدولة، والدبلوماسية الذكية تُعيد للسودان مكانته الإقليمية والدولية. كما أن العدالة الاجتماعية هي السور القانوني الذي يحمي هذا البناء من الانهيار، ويحول دون تحويل الاختلاف إلى صراعٍ أو التعدد إلى تمزق.

الوعي الوطني هو إذن رأس المال الحقيقي للدولة، وغيابه هو أخطر صور الفقر. حين يفقد المواطن إحساسه بأن وطنه يحميه، يبدأ بالبحث عن انتماءٍ آخر، فتضعف الجبهة الداخلية وتُفتح الثغرات أمام التدخلات الخارجية. أما حين يترسّخ في الضمير الجمعي أن الوطن هو الملكية المشتركة لجميع أبنائه، يصبح كل فردٍ حارسًا للهوية، وجنديًا في معركة البقاء.

إن تجارب الشعوب تثبت أن بناء الدول يبدأ من بناء الوعي، وأن التعليم والثقافة والإعلام أدواتٌ استراتيجية لتشكيل هذا الوعي. فكل مدرسة تُعلّم الانتماء، وكل وسيلة إعلام تزرع الثقة، وكل مؤسسة تُمارس العدالة، تضع حجرًا في جدار الوحدة الوطنية. لذلك، فإن معركة الحفاظ على الوطن ليست في ميادين القتال فقط، بل في ميادين الفكر والتربية والإدارة والاقتصاد.

إن السودان، رغم ما مرّ به من صراعاتٍ وتحديات، لا يزال يمتلك من مقومات الوحدة ما يفوق ما يهدده بالانقسام. فالثروة في تنوعه، والقوة في تعدده، والمستقبل في وعيه. وما يحتاجه السودان اليوم ليس مزيدًا من الخطط بقدر ما يحتاج إلى وعيٍ جديدٍ يعيد ترتيب العلاقة بين المواطن والدولة، بين الإقليم والمركز، بين الحقوق والواجبات. الوعي الوطني هو الضمان الحقيقي لبقاء الوطن الكبير في وجه التشرذم، وهو مشروع أجيالٍ لا مشروع سلطة.

وحين تتوحد الإرادة الوطنية حول رؤيةٍ جامعة تُعلي من قيمة الإنسان وتُعيد توزيع التنمية بعدالة، سيبقى السودان كتلةً واحدة متماسكة، لا تهزها رياح الفتنة ولا تغريها دعوات الانقسام، لأن العقول الواعية هي التي تحفظ الأوطان، لا الجدران.

توصيات:

1. إدماج مفاهيم الوعي الوطني والتنوع الثقافي في المناهج التعليمية في كل المراحل، لتكوين جيلٍ يعرف وطنه قبل أن يعرف حدوده.

2. تعزيز الإعلام الوطني المهني الذي يخاطب جميع الأقاليم بروح العدالة والتقدير المتبادل، بعيدًا عن التهميش أو التحيز.

3. إعادة توزيع الموارد والمشروعات التنموية بصورة متوازنة بين المركز والأطراف، كخط دفاع اقتصادي ضد التمرد والانقسام.

4. إنشاء مجلس وطني للتنمية المتوازنة والهوية الوطنية، يضم خبراء في الاقتصاد والاجتماع والإدارة والثقافة، تكون مهمته ربط التنمية بالوحدة الوطنية.

5. تفعيل القوانين التي تضمن المساواة وتمنع التمييز الجهوي أو القبلي، لضمان شعور كل مواطن بأنه جزء أصيل من الدولة.

6. تبني دبلوماسية إنسانية تعكس صورة السودان الموحد والمتنوع، وتُعيد بناء الجسور مع محيطه الإقليمي والدولي على أساس الشراكة لا الضعف.

الوطن ليس جغرافيا نعيش عليها، بل فكرة نعيش من أجلها. والوعي الوطني لا يُورّث بالدم، بل يُزرع بالعقل والتربية والقدوة. فإذا لم نبنِ في أجيالنا القادمة عقلًا وطنيًا يحمي السودان من الداخل، فلن تنفعنا الحدود ولا الجيوش. فلنبدأ إذن من داخل الإنسان، فهناك تُصنع الأوطان الحقيقية.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى