العقل الإنساني بين القناعة والطموح: نحو رؤية استراتيجية للاعتدال والازدهار
بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

العقل الإنساني بين القناعة والطموح: نحو رؤية استراتيجية للاعتدال والازدهار
الإنسان بين الرغبة والرضا
إن الغنى الحقيقي ليس ما تملكه اليد، بل ما يملكه القلب من قناعة وطمأنينة. فالطموح إذا لم يُهذّب بالقيم يتحول إلى جشع، والقناعة إذا لم تُفعّل بالعقل تتحول إلى ركود.
قال تعالى:
“زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ…”
(آل عمران: 14)
وقال النبي ﷺ:
“لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.”
(رواه البخاري [6439] ومسلم [1048])
هذه الحقيقة القرآنية والحديثية تُرسي قاعدة استراتيجية:
أن الإنسان لا يُروى بالكمّ، بل بالمعنى، وأن التوازن بين القناعة والطموح هو مفتاح التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية.
أولًا: القناعة كمنهج اقتصادي اجتماعي
القناعة ليست انكماشًا، بل وعي استهلاكي وانضباط سلوكي يحكم العلاقة بين الرغبة والإمكان.
ففي الاقتصاد الفردي تعني القناعة الإدارة الرشيدة للموارد،
وفي الاقتصاد الوطني تعني الترشيد في الإنفاق وتوجيه المال نحو الإنتاج لا الترف.
قال ﷺ:
“ما عال من اقتصد.”
(رواه أحمد [17391] والبيهقي في “السنن الكبرى”)
أي من أحسن التدبير لم يفتقر.
وهكذا تتحول القناعة إلى منهج تنموي يوازن بين الكفاية والطموح، ويرسّخ ثلاث قيم استراتيجية:
1. ضبط الرغبات في حدود الممكن.
2. التمييز بين الضروريات والكماليات.
3. ترشيد الموارد لتحقيق الاستدامة الاقتصادية.
ثانيًا: العقل والاختيار بين الرغبة والحاجة
العقل هو أداة التمييز بين الحاجة الحقيقية والنزوة العابرة.
لكن حين يتغلب الهوى على الحكمة، تتحول الأسواق إلى ميدان استهلاك لا إنتاج،
وتغدو الرغبة في التملك غاية بحد ذاتها.
ومن هنا تأتي أهمية التربية الاقتصادية والسلوكية عبر:
1. تحديد الأولويات وفق معيار المنفعة لا المظاهر.
2. التساؤل قبل الإنفاق: هل هذه حاجة حقيقية أم رغبة عابرة.
3. غرس ثقافة أسرية توازن بين المتعة والاكتفاء.
ثالثًا: الاعتدال قيمة استراتيجية في التنمية
الاعتدال ليس فضيلة أخلاقية فحسب، بل هو مبدأ استراتيجي في بناء التنمية المستدامة.
قال تعالى:
“وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا.”
(الفرقان: 67)
فالاعتدال في الإنفاق هو جوهر الاقتصاد القرآني وأساس السياسات المالية الرشيدة،
سواء على مستوى الأسرة أو الدولة.
إنه التوازن بين الوفرة والاحتياج، وبين الكسب والاستهلاك،
وهو ما يسميه الفكر الحديث: “الاقتصاد المستدام القائم على الكفاءة لا الكثرة.”
رابعًا: من القناعة الفردية إلى القناعة المؤسسية
حين تتحول القناعة إلى ثقافة مؤسسية، تصبح قاعدة للحكم الرشيد والإنتاج العادل.
وتتحقق عبر ثلاث دوائر مترابطة:
1. الفردية: ترشيد النفقات الشخصية وتبني ثقافة الادخار.
2. المؤسسية: ضبط المصروفات التشغيلية وتوجيه الفائض للتطوير.
3. الوطنية: تبنّي سياسات مالية متوازنة تدعم القطاعات الإنتاجية.
وهكذا تتبلور القناعة الإنتاجية — قناعة لا تعني الركود، بل الاكتفاء الحكيم والانطلاق الواعي.
خامسًا: العمل والإنتاج والاستثمار في ضوء الهدي النبوي
الدين لا يدعو إلى الزهد السلبي، بل إلى العمل والإنتاج والثراء المسؤول.
قال ﷺ لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
“إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.”
(متفق عليه: البخاري [2742]، مسلم [1628])
وهذا توجيه صريح بأن العمل والسعي والكسب المشروع عبادة،
وأن تكوين الثروة وسيلة لإعمار الأرض وصيانة الكرامة.
قال تعالى:
“هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا…”
(هود: 61)
أي طلب منكم إعمارها بالعمل والإنتاج والإبداع، وفق استراتيجية ومراحل لا تعرف الاستعجال في الثراء،
بل تقوم على التدرج والإتقان وتراكم الخبرة والثقة.
فالاستثمار الحقيقي ليس في الربح السريع، بل في بناء الإنسان المنتج،
وفي ترسيخ ثقافة الصبر الاقتصادي التي تُثمر بعد حين استقرارًا وازدهارًا. ريادة الأعمال واستثمار القيم في بناء المجتمع
إن إنشاء الشركات الخاصة والمشروعات الإنتاجية ليس عملًا اقتصاديًا فحسب،
بل هو عبادة عمرانية في معناها الواسع، لأنها تفتح أبواب رزقٍ للآخرين،
وتقيم بيوتًا وتُغني أسرًا، وتدفع المجتمع نحو الإنتاج لا الاتكال.
فصاحب الشركة الذي يُوفّر فرص عملٍ كريمة،
يساهم في تحقيق مقصدٍ شرعي عظيم: “إعمار الأرض وتحقيق الكفاية للناس”،
ويُؤجر من الله سبحانه وتعالى على ذلك كما يُؤجر الزارع الذي يغرس شجرة ينتفع منها الناس والطيور.
وهكذا تصبح ريادة الأعمال نوعًا من العطاء المستدام،
يحقق التكافل العملي بين المال والعمل،
ويجمع بين الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى والتنمية والازدهار.
سادسًا: فلسفة التوازن بين البساطة والطموح
البساطة ليست فقرًا في المظهر، بل غنى في الذوق والجوهر.
قال الإمام عليّ رضي الله عنه:
. “خفف من الدنيا عليك، تهن عليك الآخرة.”
فالترف المفرط يولّد الغرور، والزهد المبالغ فيه يولّد العزلة،
أما الاعتدال فهو طريق الحكمة، يجمع بين الكرامة والواقعية.
ومن لطيف الملاحظة أن الفقراء حين يُدعون إلى وليمة أو طعامٍ نادر،
قد يصيب بعضهم طمعٌ فطري، فيملأون بطونهم وكأنها فرصة لا تتكرر،
متناسين حديث النبي ﷺ:
“ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنَفَسه.”
(رواه الترمذي [2380])
بينما ترى كثيرًا من الأغنياء يأكلون بتوازن وهدوء،
لأنهم يدركون أن الطعام متاح متى شاؤوا،
فغلب على سلوكهم الاطمئنان لا الاندفاع، وهي في جوهرها قناعة نفسية لا مالية.
سابعًا: من وعي القناعة إلى الازدهار الوطني
القناعة ليست عائقًا أمام الطموح، بل أساسه.
فالمجتمع الذي يتبنى الاعتدال في استهلاكه يصبح أكثر قدرة على الإنتاج والتكافل والادخار.
وعندما تترسخ هذه القيم في السياسات العامة، تنشأ الهوية الاقتصادية الوطنية القائمة على:
1. الترشيد لا التبذير.
2. الإنتاج لا الاستهلاك.
3. العدالة لا الاحتكار.
4. الاستثمار في الإنسان قبل المال.
وبذلك تتحول القناعة من فضيلة أخلاقية إلى استراتيجية وطنية
تحقق التنمية المتوازنة والاستقرار الاجتماعي.
القناعة بداية الوعي لا نهاية الطموح
قال تعالى:
“وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ…”
(القصص: 77)
تلك هي المعادلة الربانية بين الكفاية والطموح،
بين الغنى المادي والغنى الروحي،
بين الاعتدال كقيمة والنهضة كغاية.
إن القناعة ليست نهاية السعي، بل بدايته الواعية.
فمن ملك نفسه عن الطمع، ملك قراره الاقتصادي،
ومن ملك قراره، امتلك استقلاله،
ومن امتلك استقلاله، صنع حضارته.







