مقالات

في الذكرى الخامسة لكامل شوقي حين تتقاطع السياسة والإدارة 

بقلم : عبد العظيم ميرغني

في الذكرى الخامسة لكامل شوقي

حين تتقاطع السياسة والإدارة 

• في الدولة الحديثة تقوم الإدارة العامة على توازن دقيق بين القرار السياسي والتنفيذ المهني.

• غير أن هذا التوازن كثيراً ما يتعرض للاهتزاز حين يتغول السياسي على اختصاصات الجهاز الإداري أو حين يضع الموظف نفسه في موضع الولاء للأشخاص لا للمؤسسة.

• ومن المواقف التي تجسد هذا التداخل، ما رواه “أبو الغابات” كامل شوقي، أنه حين كان يشغل منصب المفوض العام للإغاثة في ثمانينيات القرن الماضي، طلب منه وزير الإغاثة أن تُفرغ مواد الإغاثة في مخازن خاصة يشرف عليها الوزير شخصياً، بدلاً من المخازن الرسمية التابعة للمفوضية.

• رفض أبو الغابات الطلب محتجاً بعدم مشروعيته ومخالفته للإجراءات المؤسسية، فاستشاط الوزير غضباً وقال مستنكراً: “إنت قايل نفسك شنو؟ ما زول غابات ساكت، ده أنا الوزير!”.

• فرد أبو الغابات بهدوئه المعهود قائلاً: “هو الوزير ده أصلو عِجلة حسن مسمار؟ لا بتنزاح ولا بتندار!”.

• كانت عبارته الساخرة تلخيصاً لموقف صلب، يؤمن بأن الموظف العام خادم للقانون لا للوزراء، وأن كرامة الخدمة المدنية في استقلالها المهني.

• ولم يكن ذلك الموقف الوحيد الذي عكس صلابته المبدئية؛ فحين طلب أحد النافذين في الحزب الاتحادي منه تعيين ابن أحد الزعماء، نقل الأمر إلى خاله يحيى الفضلي، القطب الاتحادي البارز، بحكم العلاقة الأسرية.

• فقال له الفضلي مازحاً: “كمان عندك كلام؟” فرد أبو الغابات: “عندي ألف كلام، ولست أستشيرك، وإنما أخبرك لأن رأيي سيصلك على كل حال”، فابتسم الفضلي وقال ساخطاً: “إنتو الموظفين بتفتكروا إيه؟”

• تلك المحاورة القصيرة بين خالٍ وسياسيٍ بارزٍ من جهة، وموظفٍ مهنيٍ نزيهٍ من جهة أخرى، كانت مثالاً على الفجوة بين منطق الحزب ومنطق الدولة، بين الولاء السياسي والمصلحة العامة.

• هاتان الواقعتان تلخصان مأزق الدولة السودانية منذ الاستقلال: اختلاط السياسي بالإداري.

• فحين تتغول السياسة على الخدمة المدنية، تتراجع المهنية وتفقد المؤسسات كفاءتها، لأن القرار يصبح رهيناً للأمزجة والولاءات لا للأنظمة واللوائح.

• ولعل ما يجعل تجربة أبو الغابات ماثلة في الذاكرة أنه لم يكن مجرد موظف كفء، بل كان صاحب رؤية أخلاقية يؤمن بأن الوظيفة العامة تكليف وطني، وأن مقاومة الانحراف ليست تمرداً بل واجباً.

• إن العلاقة بين السياسي والموظف العام ليست علاقة صراعٍ بطبيعتها، وإنما علاقة تكاملٍ مشروطٍ باحترام الحدود: السياسي يضع السياسات، والموظف ينفذها وفق القانون.

• متى ما التزم الطرفان بهذا التوازن استقامت مؤسسات الدولة وازدهرت إدارتها، ومتى ما اختل التوازن، ضاعت هيبة المرفق العام.

• ولعل كلمات “أبو الغابات” تبقى درساً بليغاً للأجيال اللاحقة: أن المنصب يزول، لكن الموقف يبقى.

• فالقانون هو الحكم بين الجميع، ومن يضع المبدأ فوق المصلحة يصون كرامة الدولة كما يصون كرامة نفسه.

• لم يكن كامل شوقي رمزاً للمهنية فحسب، بل كان أيضاً نموذجاً للإنسان السوداني النبيل، البسيط في مظهره، العميق في جوهره. حمل في قلبه حب المهنة والوطن معاً، فظلّ صادقاً مع نفسه إلى آخر يوم في حياته.

• خمس سنوات مضت على رحيله، لكن حضوره بيننا لم يخفت، لأن الرجال الذين يصونون المبدأ لا يموتون تماماً، بل يخلدهم أثرهم في المؤسسات التي خدموها وفي الضمائر التي أيقظوها.

• ورحم الله أبا الغابات، فقد علمنا أن الصدق في الموقف هو أبلغ أشكال الولاء للوطن.

آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق.

 

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى