مقالات

إلغاء الامتحان الموحّد (الشهادة السودانية) — رؤية استراتيجية للتعليم العالي والتمهين

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

إلغاء الامتحان الموحّد (الشهادة السودانية) — رؤية استراتيجية للتعليم العالي والتمهين

إنّ التفكير في إلغاء الامتحان الموحّد (الشهادة السودانية) ليس تقويضًا للنظام التعليمي، بل خطوة استراتيجية متقدمة وسبق وطني نحو التنمية والبناء.

ففي عالمٍ يشهد تحولاتٍ عميقة في مفاهيم التعليم والعمل، لم يعد الامتحان الموحّد أداة عادلة لتقدير القدرات ولا وسيلة دقيقة لاختيار طلاب الجامعات. بل أصبح من الضروري تبنّي نظام متعدد المسارات يعتمد على تقييمات متنوعة تعكس طبيعة كل مجال من مجالات الإبداع والإنتاج.

إنّ التنوع في الامتحانات والمسارات هو طريق المستقبل: فالمسار الأكاديمي يمكن أن يستند إلى امتحانات معيارية مثل SAT أو YÖS أو اختبارات قدرات وطنية مطوّرة، في حين يقوم المسار التقني والفني على ملفات إنجاز رقمية (Portfolio) واختبارات كفاءة مهنية، أما المسارات الزراعية والصناعية فتعتمد على مشاريع تطبيقية حقيقية تشكّل جزءًا من عملية القبول والتقويم المستمر.

بهذا، تتكامل المعايير الأكاديمية والمهنية والتقنية في منظومة عادلة ومرنة تتيح لكل طالب أن يبرهن على قدراته الحقيقية دون أن يُختزل مستقبله في يوم امتحان واحد.

لقد سبقتنا دول كبرى مثل الصين في إلغاء عدد من التخصصات الجامعية التقليدية واستبدالها بأخرى تواكب التحولات الحديثة في مجالات الذكاء الاصطناعي، والزراعة الذكية، والروبوتات، والطاقة المتجددة، والتقنيات الرقمية، لأن العالم لم يعد يقيس التفوق بالحفظ، بل بالقدرة على الإبداع والإنتاج والتكيّف.

ومن هنا، فإن إلغاء الامتحان الموحّد في السودان هو إعلان ثقة بالمستقبل: ثقة في تنوّع المواهب، وفي قدرة التعليم على أن يصبح منصة تمكين لا بوابة إقصاء، وساحة لإطلاق الطاقات لا حبسها.

1. لماذا التفكير في إلغاء الامتحان الموحّد؟ (مبرّر استراتيجي مُوسّع)

تركيز مخاطرة وحيدة: الامتحان الموحد يضع مصائر سنوات من التعلم على نتيجة إداريّة محدودة وذات حساسية عالية.

فشل في التقاط التنوع والابتكار: العالم يحتاج مهارات تقنية وصناعية وفنية ورقمية وقدرات حل المشكلات والابتكار — لم تعد قياسات الحفظ كافية.

دور التكنولوجيا والتعلّم المستمر: الذكاء الاصطناعي وأدوات التعلّم التكيفية تعيد تعريف الاستعداد الجامعي والمهني.

تجارب دولية ناجحة: دولٌ انتقلت إلى نظم قبول متعددة المسارات أو قلّلت الاعتماد على امتحانات موحّدة، مع نتائج محكمة في جودة المخرجات.

2. نماذج عالمية يمكن استخلاص الدروس منها

الولايات المتحدة (Holistic Admissions & Test-Optional): اعتماد التقييم الشامل للقبول، ما سمح بقبول طلاب ذوي كفاءات متعددة.

ألمانيا (نظام التعليم الثنائي / Dual System): الجمع بين التدريب المهني والتعليم المدرسي ضمن منظومة واحدة.

سنغافورة وكوريا الجنوبية: أنظمة تتيح التحوّل بين المسارات الأكاديمية والتقنية عبر معايير تقييم واضحة.

دول أوروبا (إطار المؤهلات الأوروبية — EQF): اعتماد أطر معيارية تربط المؤهلات المحلية بمستويات قابلة للمقارنة دولياً.

3. ميثاق وطني للمسارات الصناعية والفنية والتقنية — عناصر أساسية

1. تعريف المسارات المؤهلة: صناعي، فني، تقني، رقمي، أكاديمي، زراعي، صحي…

2. وضع معايير اعتماد الشهادات والمؤسسات التعليمية.

3. إنشاء ملف إنجاز رقمي موحّد (National e-Portfolio).

4. اعتماد آليات تقييم معترف بها دولياً.

5. تطوير آليات التحويل والاعتراف المتبادل بين المسارات.

6. ضمان العدالة والتمييز الإيجابي للمناطق الأقل حظاً.

4. الإطار القانوني والإداري والتنفيذي المقترح

قانون تأسيسي لإنشاء الهيئة الوطنية للاعتراف بالمسارات والمؤهلات، بوابة التسجيل الموحدة، وآليات المساءلة والشفافية.

هيئة مركزية مستقلة لمراقبة الجودة وضمان العدالة.

منهجية تنفيذ مرحلية (3–5 سنوات) مع برامج تجريبية في ولايات مختارة.

اتفاقات دولية للاعتراف المتبادل بالشهادات والمعايير.

5. نظام القبول متعدد المسارات — إطار تفصيلي مقترح

1. معدل نهاية المرحلة الثانوية.

2. ملف إنجاز (Portfolio).

3. اختبارات معيارية موضوعية.

4. مقابلات تقييم الكفاءة.

5. برامج جسرية تأهيلية (Bridging Programs).

6. نقاط دعم تعويضية للمدارس الأقل حظًا.

6. ضمان الجودة والنزاهة ومكافحة الاحتيال

بوابة رقمية مركزية مرتبطة بالهوية البيومترية.

سجلات تعليمية لامركزية مؤمنة.

آليات رقابية مستقلة.

عقوبات صارمة ضد الغش الأكاديمي والتلاعب في القبول.

7. المخاطر المحتملة وسبل التخفيف

فقدان الثقة المجتمعية: عبر حملات توعية وشراكات إعلامية وتربوية.

عدم التجانس بين المسارات: بتطبيق برامج تقوية مركزية.

الضغط على الجامعات: من خلال التطبيق التدريجي المتدرج زمنيًا.

مخاطر الاحتيال الرقمي: عبر بنية معلوماتية مؤمنة وشفافة.

8. توصيات

1. إطلاق مبادرة وطنية للتعددية التعليمية برعاية رفيعة المستوى.

2. تنفيذ مشاريع تجريبية في مناطق حضرية وريفية.

3. بناء نظام ملفات إنجاز وطني (e-Portfolio).

4. إصدار ميثاق وطني للمسارات الصناعية والفنية والتقنية.

5. إنشاء برامج جسرية للمسارات المتحولة.

6. توقيع اتفاقيات اعتراف جامعية دولية.

7. حملة توعوية شاملة للأسر والمدارس.

9. الزراعة الذكية والبستنة كمدخل تعليمي تطبيقي

إن منطق التعليم متعدد المسارات لا يكتمل دون ربطه بمنظومات الزراعة الذكية والبستنة الإنتاجية بوصفها نموذجًا عمليًا للتعليم المهني المستدام.

فالزراعة الحديثة لم تعد تقليدية؛ إنها تعتمد على الاستشعار عن بُعد، نظم الري الذكية، إدارة البيانات المناخية، والمراقبة الرقمية للنمو النباتي.

يمكن دمج هذه المكونات في المسار الزراعي والتقني ليصبح مختبرًا تطبيقيًا حقيقيًا، حيث يتعلم الطلاب عبر الممارسة والابتكار لا عبر الحفظ.

إن تبني مفهوم المدرسة المنتجة أو الجامعة الزراعية الذكية يعزز مفهوم سلاسل الإمداد التعليمية — أي الربط بين الفكرة، والتطبيق، والإنتاج، والتسويق.

بذلك، يتحول التعليم إلى منظومة إنتاج معرفي واقتصادي متكاملة تسهم في الأمن الغذائي وتخلق وظائف جديدة وتربط الريف بالمدينة عبر المعرفة.

هذا النموذج التعليمي الزراعي الذكي يمكن أن يُصبح رمزًا لتحول السودان من الاعتماد على الاستيراد إلى الاكتفاء والإبداع المحلي، تمامًا كما فعلت سنغافورة وكوريا في الصناعات التقنية.

يمكن أن تكون “الزراعة الذكية السودانية” بوابة لتقنيات إنترنت الأشياء، والطاقة الشمسية، والاقتصاد الأخضر، والبستنة التجارية عالية الكفاءة.

إن إلغاء الامتحان الموحّد هو إعلان ثقة بالمستقبل، وثقة في تنوّع المواهب وفي قدرة نظام التعليم على أن يصبح منصة تمكين لا أداة إقصاء.

القفز إلى النظام متعدد المسارات يتطلب شجاعةً سياسية، وإرادة تنظيمية، وبنية تقنية مرنة، وقانونًا يضمن العدالة.

لكن ثمن الانتظار أعلى: إهدار طاقات شبابنا واستمرار بناء اقتصاد يعتمد على نماذج قديمة لا تلائم عالمًا يقوده الذكاء والمهارة والإبداع.

فلنبدأ اليوم بمشروعٍ تجريبي واضح وميثاقٍ وطنيٍ للمسارات التعليمية المتعددة، وببوابة رقمية تحفظ سجلات أبنائنا وتمنح الجامعات أدوات اختيار عادلة.

حين نصنع هذا النظام، نمنح كل طالب فرصة حقيقية لأن يبرهن عن نفسه في المجال الذي اختاره، ونحوّل طاقة القلق إلى طاقة إنتاج، ونصنع إنسانًا قادرًا على بناء وطن كريم ومستدام.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى