مقالات

العلاقة الزوجية كقيمة استراتيجية: التوافق والسكن والوفاء في بناء المجتمع المنتج

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

العلاقة الزوجية كقيمة استراتيجية: التوافق والسكن والوفاء في بناء المجتمع المنتج

قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾

(سورة الروم، الآية 21)

1. التوافق والسكن: أساس الاستقرار الإنساني

إن العلاقة بين الرجل والمرأة ليست علاقة جسدية أو اجتماعية فحسب، بل علاقة قِيَمية واستراتيجية تقوم على مبدأ السكن.

فالسكن هنا لا يُقصد به المسكن المادي، بل هو المأوى النفسي والراحة الفكرية التي يجدها كل طرف في الآخر.

حين يلتقي التوافق العقلي بالعاطفي، تتأسس شراكة متوازنة قادرة على مواجهة ضغوط الحياة، إذ يتحول الزواج من علاقة شخصية إلى مؤسسة مجتمعية تُسهم في بناء الإنسان واستقرار الأمة.

وقد فرّق القرآن الكريم بدقة بين حالتي التوافق والاختلاف في العلاقة، فجاء اللفظ الإلهي معبّرًا عن عمق الارتباط:

ففي حالة الانسجام الكامل قال تعالى: ﴿اسكن أنت وزوجك الجنة﴾ (البقرة: 35)، إذ كان بينهما تآلف فكري ووجداني.

أما في غياب التوافق، فقال تعالى: ﴿امرأة نوح وامرأة لوط﴾ (التحريم: 10)، لأن الانفصال العقائدي والنفسي ألغى معنى الزوجية.

وحين عاد الانسجام بين زكريا وزوجه قال تعالى: ﴿وأصلحنا له زوجه﴾ (الأنبياء: 90)، أي أعاد الله لهما التوازن المفقود.

إذن، التحول من لفظ امرأة إلى زوج يعكس الانتقال من الفجوة إلى السكن، ومن الغريزة إلى الوعي، ومن العيش إلى التوافق.

2. الحب والوفاء: بين العاطفة والالتزام

الحب هو الالتزام اللاواعي الذي يدفع الإنسان نحو الآخر دون تفكير عميق، بينما الوفاء هو الالتزام الواعي الذي يبقي العلاقة مستقرة رغم العواصف.

ففي حين يذبل الحب مع الوقت إن لم يُغذَّ بالقيم، يبقى الوفاء قائمًا لأنه مستند إلى الإرادة والضمير.

وقد عبّر علماء الاجتماع عن الوفاء بأنه “العقل الاستراتيجي للحب”، لأن الحب وحده لا يكفي لبناء بيت مستقر.

الوفاء هو الذي يُترجم المشاعر إلى أفعال: في الصبر، والمشاركة، وتحمل المسؤولية.

الإسلام لم يقدّس الحب بمعناه الرومانسي، لكنه جعله ثمرة للمودة والرحمة، أي للعطاء المستمر.

وهذا الفهم العميق يجعل من الزواج علاقة عقلانية عاطفية متوازنة، لا تقف عند الانفعال، بل تمتد إلى البناء.

3. المعرفة قبل الارتباط: ضمان التوافق

تؤكد الدراسات النفسية الحديثة أن المعرفة السابقة بين الخطيبين، وليس الحب، هي ما يحدّد احتمالات نجاح الزواج.

فدراسة جامعة شيكاغو (2019م) أظهرت أن الرجال أكثر عرضة للحب من النظرة الأولى بسبب النشاط البصري في الدماغ،

بينما تنجذب النساء إلى السمات العقلية والوجدانية مثل الأمان والاستقرار والثقة.

وهذا ما فطن إليه الإسلام حين جعل النظر الشرعي والمعرفة المسبقة طريقًا للاختيار،

ونهى عن التعلق المفرط بالمظاهر أو الغرائز، لأن ما يُبنى على الشهوة ينطفئ،

أما ما يُبنى على التوافق في الفكر والروح فيدوم.

إنها رؤية اجتماعية راقية تحمي الإنسان من قرارات انفعالية، وتُبقي الزواج في دائرة الوعي لا الغريزة.

4. الأسرة المتوافقة: وحدة إنتاج واستقرار اقتصادي

حين نتحدث عن التوافق الزوجي، فإننا نتحدث عن استراتيجية تنموية مصغّرة داخل البيت.

فكل أسرة متماسكة هي مؤسسة إنتاجية تُسهم في الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.

الزوجان المتوافقان يتقاسمان الأدوار دون صراع، فيتحول البيت إلى بيئة عمل وتعاون.

وقد بينت دراسات التنمية البشرية أن الأسر التي يسودها الحوار والتفاهم تسجل معدلات إنتاج أعلى، سواء في عمل الزوج أو في تعليم الأبناء.

في اليابان مثلًا، ارتبطت فلسفة “السكن الأسري” (Wa no kokoro) باستقرار القوى العاملة،

إذ تُعد الأسرة المتوافقة بيئة تُقلل من التوتر وتزيد من الكفاءة الإنتاجية.

وفي الدول الإسكندنافية، أُدرجت برامج التوازن الأسري ضمن السياسات الاقتصادية، إدراكًا لعلاقة الاستقرار النفسي بالإنتاج الوطني.

وعلى النقيض، تشير تقارير البنك الدولي إلى أن تفكك الأسرة يؤدي إلى خسائر اقتصادية غير مباشرة

تتمثل في انخفاض الإنتاج، وارتفاع نسب الجريمة، وتدهور الصحة النفسية والتعليم.

إذن، الزواج المتوافق ليس مجرد رابطة وجدانية، بل رأسمال اجتماعي منتج،

وهو الأساس الحقيقي للتنمية المستدامة في أي دولة تسعى للنهضة.

5. البعد القيمي والإنساني

حين يُبنى الزواج على مبدأ التوافق والسكن، يتحول إلى عطاء متبادل.

العطاء هنا ليس ماديًا فقط، بل نفسيًا وفكريًا وروحيًا.

فالزوجة المتوافقة لا تُنافس زوجها، بل تُكمله، تشجعه بالكلمة الطيبة، وتدعمه في مسار حياته، وتكون مرآةً تعكس أفضل ما فيه.

والزوج بدوره يدرك أن السعادة لا تأتي من السيطرة، بل من المشاركة.

وهكذا تُترجم المودة والرحمة إلى عمل، والتفاهم إلى سلوك، فيصبح البيت نموذجًا مصغرًا للمجتمع الذي نحلم به:

مجتمع يقوم على العدل والوفاء والتكامل لا الصراع والأنانية.

6. تجارب عالمية “خارج الصندوق”

التجربة الماليزية:

اعتمدت الحكومة الماليزية في برامج التنمية الأسرية على مبدأ الزواج المنتج،

إذ تُمنح حوافز للأسر التي تُنشئ مشروعات منزلية مشتركة بين الزوجين، مما خفّض نسب البطالة النسائية ورفع الدخل الأسري.

تجربة رواندا بعد الإبادة الجماعية (1994):

تم اعتماد برامج التوافق الاجتماعي عبر المصالحة الأسرية،

إذ أدركت الدولة أن إعادة بناء المجتمع تبدأ من الأسرة الواعية، لا من القوانين فقط.

فأُنشئت مجالس محلية تُعنى بإصلاح ذات البين وتعزيز الحوار الأسري، فارتفعت نسبة الاستقرار الأسري إلى أكثر من 80%.

تجربة الإمارات العربية المتحدة:

في إطار “الاستراتيجية الوطنية للأسرة”، تم تأسيس مراكز لتأهيل ما قبل الزواج تقوم على تدريب المقبلين على مهارات التواصل والتفاهم المالي والنفسي،

مما جعلها من أقل الدول العربية في معدلات الطلاق خلال السنوات الأخيرة.

7. توصيات

1. إدماج التربية الأسرية في المناهج الدراسية لتكوين جيل يفهم معنى الشراكة والمسؤولية.

2. إنشاء صناديق دعم للزواج المنتج تموّل المشروعات الصغيرة للأزواج المتوافقين لتشجيع التكامل الاقتصادي.

3. تفعيل برامج التأهيل النفسي قبل الزواج بمشاركة مختصين في علم النفس والاجتماع والاقتصاد.

4. إطلاق حملات إعلامية توعوية لإعادة تعريف الزواج كعلاقة تكامل واستقرار، لا مجرد ارتباط عاطفي.

5. تأسيس وحدات دراسات أسرية في الجامعات لقياس أثر التوافق الزوجي على الأداء الاقتصادي والاجتماعي.

6. تعزيز ثقافة الحوار داخل الأسر كوسيلة وقائية من التفكك والنزاع.

السكن طريق البناء

الأسرة المتوافقة هي أول خلية في جسد الوطن السليم.

حين تتكامل الأرواح والأفكار، تتولد طاقة إنتاجية هائلة قادرة على تجاوز الأزمات.

وحين ينهار التفاهم بين الزوجين، ينهار جزء من المجتمع.

السعادة الزوجية ليست في الحب وحده، بل في التوافق والوفاء والسكن.

ولذلك قال تعالى:

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾

فحين يسكن القلب إلى فكر شريكه، وحين يصبح العطاء عادة لا واجبًا،

يولد من رحم الزواج مجتمع متماسك، واقتصاد منتج، وأمة تعرف أن الاستقرار العاطفي مقدمة للاستقرار الوطني.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى