مقالات

نور التوازن: الطاقة الأنثوية كمدخل لاستعادة الإنسان واستدامة الحياة

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

نور التوازن: الطاقة الأنثوية كمدخل لاستعادة الإنسان واستدامة الحياة

في عالمٍ يغرق في السرعة والتنافس والصراع من أجل السيطرة، تتراجع أحيانًا أعظم القوى التي تحفظ للإنسان توازنه واستقراره الداخلي: الطاقة الأنثوية. ليست الطاقة الأنثوية هنا صفة بيولوجية أو بعدًا جنسانيًا كما يتبادر للذهن، بل هي قوة وجودية تمثل الجمال والرحمة والحدس والإبداع والرعاية والتكامل، في مقابل الطاقة الذكورية التي تمثل القوة والإنجاز والمنطق والسيطرة والتنظيم. وكما أن الكون لا يقوم على النور وحده دون الظل، كذلك لا يستقيم الإنسان ولا المجتمع دون توازن بين هاتين القوتين.

تُظهر الدراسات النفسية والاجتماعية أن المجتمعات الحديثة — برغم تقدمها العلمي — تعاني من خلل طاقي عميق، حيث طغت قيم الأداء المادي، والمنافسة، والسيطرة، والسرعة على قيم الرعاية، والاتصال الإنساني، والرحمة. ونتيجة لذلك، ظهر ما يمكن تسميته بـ الإنهاك الروحي ، وهو نوع من الفراغ العاطفي والذهني الذي يُفقد الأفراد معنى الحياة رغم وفرة الإمكانات.

إن كاثرين ستون في كتابها “Twelve Powers of the Feminine” تقدم رؤية عميقة لإعادة اكتشاف الأنوثة الكونية ، لا كقضية نسوية، بل كقوة توازن كونية. ترى ستون أن الطاقة الأنثوية هي قوة الإحياء الداخلي التي تعيد الإنسان إلى ذاته وإلى قدرته على الحب والعطاء والانسجام مع الطبيعة. فحين يغيب هذا البعد، يتحول العمل إلى سباق، والعلم إلى أداة، والاقتصاد إلى صراع، والعلاقات إلى مصالح.

من الناحية التحليلية النفسية، تمثل الطاقة الأنثوية اللاوعي الإيجابي — الجانب الحدسي والعاطفي في الإنسان — الذي يغذي الإبداع والرؤية الداخلية. وقد أكد يونغ أن تحقيق التوازن بين الـ أنيموس(الطاقة الذكورية) و الأنِيما (الطاقة الأنثوية) داخل كل إنسان هو شرط للنضج النفسي الكامل. فكل رجل يحمل بداخله طاقة أنثوية، وكل امرأة تحمل طاقة ذكورية، والمشكلة تبدأ حين يُقمع أحد الجانبين.

أما من المنظور الاجتماعي، فإن المجتمعات التي تُقدّر الطاقة الأنثوية — عبر تمكين قيم الرحمة والرعاية والتعليم والرؤية الجمالية في الإدارة والاقتصاد — تكون أكثر قدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والسلام الداخلي. فعلى سبيل المثال، التجارب الإسكندنافية تُظهر أن إدخال مفاهيم الرفاه الإنساني ورعاية الطفل والعدالة بين الجنسين في السياسات العامة جعل النمو الاقتصادي أكثر استدامة، لأن الإنسان أصبح مركز التنمية لا وسيلتها.

اقتصاديًا، تتجلى الطاقة الأنثوية في الاقتصاد التشاركي، وفي مفهوم “القيمة المضافة الإنسانية” التي تضع الجودة فوق الكم، والعلاقات فوق الأرباح السريعة. وهي في جوهرها سر استراتيجية التسويق الحديثة، التي تقوم على الجذب لا الفرض، وعلى الإلهام لا الإكراه، وعلى بناء علاقة وجدانية بين المنتج والمستهلك. فالتسويق الذي يستحضر البعد الأنثوي لا يبيع سلعة فقط، بل يخلق تجربة، ويخاطب العاطفة قبل المنطق، والإحساس قبل الرغبة، مما يجعله أكثر استدامة وأعمق أثرًا. إن نجاح العلامات التجارية الكبرى اليوم يقوم على فهمٍ دقيقٍ لهذه الطاقة — طاقة الاحتواء، الجمال، والصدق — التي تبني الثقة لا مجرد الولاء.

استراتيجيًا، فإن أي مشروع تنموي أو إصلاحي يحتاج إلى دمج هذه الطاقة في تصميمه؛ لأن التنمية ليست مجرد نمو مؤشرات، بل إعادة بناء الإنسان من الداخل. عندما تُدار المؤسسات بعقل ذكوري صارم فقط، يختفي الإلهام، ويجف الإبداع، ويضعف الانتماء. أما حين تدخل الطاقة الأنثوية — في شكل قيم الرحمة والتواصل والإصغاء — تتحول القيادة إلى رعاية، والإدارة إلى إلهام، والتنمية إلى حياة.

ليس المقصود هنا إعادة تشكيل العالم بمنظور أنثوي بحت، بل استعادة المعادلة المفقودة بين الفعل والوعي، بين المنطق والحدس، بين الصلابة والرحمة. فكل حضارة كبرى في التاريخ سقطت حين فقدت هذا التوازن، وكل نهضة حقيقية بدأت حين استعاد الإنسان ذاته قبل أن يستعيد أدواته.

إن ما تحتاجه الإنسانية اليوم ليس المزيد من الصراع أو الإنتاج أو الشعارات، بل عودة النور الداخلي — نور الطاقة الأنثوية — التي تجعل الإنسان أكثر إنسانية. فهي ليست نقيضًا للقوة، بل معناها الأعمق: القوة التي لا تَجرح، والإرادة التي تُحيي، والعقل الذي يسمع صوت القلب قبل أن يُصدر الحكم.

التوصيات:

1. دمج البعد النفسي-الطاقي في التعليم والإدارة والتنمية بوصفه أساسًا للذكاء العاطفي والقيادة الواعية.

2. إعادة بناء المؤسسات على قيم الرعاية والتواصل لا الهيمنة، عبر تدريب القيادات على مهارات الإصغاء والتعاطف.

3. إطلاق برامج مجتمعية تهتم بالصحة النفسية والروحية كجزء من التنمية البشرية، وليس كرفاهية.

4. تمكين المرأة فكريًا وروحيًا لتكون نموذجًا للأنوثة الواعية لا مجرد رقم في سوق العمل.

5. توجيه استراتيجيات التسويق والإدارة نحو البعد الإنساني والعاطفي، لجعل السوق فضاءً للتفاعل لا للمنافسة القاسية.

حين تتصالح البشرية مع طاقتها الأنثوية، تستعيد سرها الأعمق: أنها خُلقت لتُحب وتُبدع وتُعمر. ليست الطاقة الأنثوية إذن دعوة لعودة إلى الماضي، بل بوابة لمستقبل أكثر رحمة وجمالًا واتزانًا. فكما قال أحد الحكماء:

 إن العالم لن يُشفى بالقوة، بل بالحنان.

وهكذا، فإن الطاقة الأنثوية ليست ضعفًا، بل ضوءًا يرشد الإنسانية إلى ذاتها، وليست نقيضًا للعقل، بل قلبه النابض. ومن وعي هذا التوازن أدرك أن التنمية ليست معركة، بل رحلة وعي نحو الإنسان الكامل، في تسويقٍ أرقى، واقتصادٍ أهدأ، وعالمٍ أكثر إنسانية.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى