
إدارة الصراع كقوة استراتيجية للبناء لا للهدم
يقدّم هذا المقال رؤية علمية وإنسانية ترى في الصراع ظاهرةً طبيعيةً لا يمكن إلغاؤها، بل يجب إدارتها بعقل استراتيجي حكيم.
فحيث وُجد التنوّع وُجد الاختلاف، وحيث وُجد الاختلاف وُجدت فرص النمو والتجديد.
وإدارة الصراع ليست عملية قمع للخلافات، بل تحويلٌ للطاقة السلبية إلى قوة بنّاءة تفتح آفاق التطوير المؤسسي والتنمية الوطنية.
يطرح المقال معالجة متكاملة لظاهرة الصراع على ثلاثة مستويات:
1. داخل الإدارة الواحدة (Intra-Departmental Conflict).
2. بين الإدارات المختلفة داخل المؤسسة (Inter-Departmental Conflict).
3. على مستوى الدولة والمجتمع والعلاقات الدولية.
ويرتكز على فلسفة مؤداها أن إدارة الصراع هي مدرسة للحكمة وميزان للقيادة، وأن تحويل الخلاف إلى توافق هو جوهر النهضة المؤسسية والاجتماعية.
أولًا: الصراع داخل الإدارة الواحدة
هو الشكل الأكثر شيوعًا، ويحدث بين أفراد الفريق أو داخل الإدارة نفسها.
تتمثل أسبابه في غياب وضوح المهام، وتداخل الأدوار، أو التنافس غير الصحي على الموارد.
الدراسات الحديثة في السلوك التنظيمي تؤكد أن الصراع البنّاء يرفع الأداء عبر تعزيز التفكير النقدي، بينما الصراع الهدّام يهدر الطاقات ويُضعف الثقة.
الاستراتيجيات الناجحة:
1. التعاون (Collaboration): تحويل الحوار إلى وسيلة للفهم المشترك لا للاتهام.
2. تحديد المسؤوليات بوضوح لتقليل التداخل الإداري.
3. التغذية الراجعة المنتظمة (Mediated Feedback) لبناء الثقة والشفافية.
4. الاحتفال بالإنجاز الجماعي بدل الفردي لتقوية الانتماء للفريق.
ثانيًا: الصراع بين الإدارات المختلفة
عندما تتعارض أولويات الإدارات — كإنتاج يريد الكفاءة ومبيعات تريد السرعة — تظهر التوترات المؤسسية.
لكن هذا النوع من الصراع إذا أُدير بذكاء، يتحول إلى محرك للتكامل المؤسسي.
أدوات المعالجة:
1. فرق عمل مشتركة (Cross-functional Teams) تربط الإدارات برؤية واحدة.
2. توحيد مؤشرات الأداء (KPIs) لتخدم الهدف المؤسسي العام لا الأهداف الجزئية.
3. وساطة مؤسسية (Institutional Mediation) لتسوية الخلافات بهدوء وشفافية.
4. ربط الحوافز بالنجاح الجماعي لتخفيف المنافسة السلبية.
فالمؤسسة التي تُحسن إدارة صراعاتها الداخلية
هي التي تُحسن قيادة تحولها نحو النجاح المستدام.
ثالثًا: الصراع على مستوى الدولة والمجتمع
يتجاوز الصراع التنظيمي ليأخذ بعدًا سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا.
الدول الرشيدة لا تُنكر الصراع، بل تُحوّله إلى آلية لتصحيح المسار وتحقيق التوازن بين المصالح المتباينة.
تجارب عالمية ملهمة:
جنوب إفريقيا: حوّلت صراعًا عرقيًا إلى مشروع الحقيقة والمصالحة”، فأعادت بناء الأمة على أسس العدالة والتسامح.
رواندا: جعلت من العدالة الانتقالية نموذجًا للتنمية بعد الإبادة، فجمعت بين الأمن والمصالحة والنهوض الاقتصادي.
سنغافورة: حولت تنوعها العرقي والثقافي إلى مصدر إبداع وتنافس عالمي عبر إدارة دقيقة للتوازن المجتمعي.
السويد: جعلت الحوار المجتمعي قيمة قانونية واجبة في اتخاذ القرار، فغدت الصراعات السياسية أداة لتحسين السياسات لا لتمزيقها.
التجارب تؤكد أن الأمم لا تنهض بغياب الصراعات،
بل بوجود مؤسسات تُحسن إدارتها.
رابعًا: نحو إدارة وطنية شاملة للصراع في السودان
السودان اليوم في أمسّ الحاجة إلى فلسفة وطنية جديدة لإدارة الصراع، تقوم على العدالة المؤسسية، والمشاركة المجتمعية، وتفويض محلي رشيد.
التوصيات:
1. تأسيس مراكز وطنية للوساطة في الولايات لإدارة النزاعات القبلية والتنموية.
2. إدماج إدارة الصراع كمادة تدريبية في برامج القيادة العليا والخدمة المدنية.
3. تفعيل مبدأ حوكمة الصراع (Conflict Governance) في مؤسسات الدولة.
4. تضمين منهج الحوار والتسوية في المناهج التعليمية منذ المراحل المبكرة.
5. إعادة الاعتبار للجودية والتسامح الشعبي كقيم سودانية أصيلة لإدارة الخلافات.
6. تأسيس مرصد وطني للصراعات لتحليل أسبابها واتجاهاتها ورفع توصيات دورية لصناع القرار.
خامسًا: الصراع كقيمة إنسانية وإدارية
الصراع ليس خطأ في النظام البشري، بل نظامٌ في حركة الحياة.
كل حضارة عظيمة وُلدت من رحم صراع، لكن الفرق بين الهدم والبناء هو في “كيف” أُدير ذلك الصراع.
القائد الواعي لا يخاف الصراع،
بل يوجهه نحو التوازن والإبداع.
وحين تتربى الأجيال على ثقافة إدارة الصراع، لا على تجنّبه،
يتحول الاختلاف إلى وقودٍ للنهضة لا نارٍ للانقسام.
إنّ إدارة الصراع ليست مجرد مهارة تنظيمية، بل فلسفة للحياة والإدارة والقيادة.
هي فنّ تحويل التناقض إلى تكامل، والاختلاف إلى ابتكار، والخصومة إلى فرصة للنمو.
وحين تُصبح إدارة الصراع ثقافةً وطنيةً في السودان،
لن تكون الخلافات سببًا للتفكك، بل منصةً للتصالح والبناء.
وعندها فقط يمكن أن ننتقل من الجدل إلى الفعل، ومن الأزمات إلى النهضة، ومن الخلاف إلى الائتلاف.
فالإدارة التي تُحسن إدارة الصراع،
هي التي تُحسن بناء المستقبل.