مقالات

المرأة الريفية: الضمير الحي للريف وروح الاستدامة

بقلم : د. عبد العظيم ميرغني

المرأة الريفية: الضمير الحي للريف وروح الاستدامة

بمناسبة اليوم العالمي للمرأة الريفية- 15 أكتوبر

عشقوا الجمال الزائف المجلوبا … وعشقت فيك جمالكَ الموهوبا

حيَّيتُ فيك الثابتين عقائداً… والطاهرين سرائراً وقلوبا

والذاهبات إلى الحقول حواسراً … يمشي العفاف ورائهن رقيبا

• كانت تلك بعض أبيات قصيدة “جمال الريف” للشاعر المصري محمود غنيم، التي مجد فيها حياة الريف بما تنطوي عليه من صفاءٍ وبساطةٍ.

• وقد حفظناها جميعًا نحن رفاقَ الزمن الجميل، إذ كانت من مقرراتنا الدراسية التي صقلت ذائقتنا الأدبية وشكّلت وعينا الجمالي المبكر.

• لست هنا بصدد التملي في جمال الريف، ولا في التغني بفضائل رجاله، أو في التغزل بنسائه الذاهبات إلى الحقول حواسِرَ.

• فإني – على قول الإمام الشافعي رحمه الله:

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزلٍ … وعدت إلى ربي، وأولِ منزلِ

ونادت بي الأشواق مهلاً فقلتها … رجوعِي إلى ربّي أجلُّ وأفضلُ

• ولكني بصدد التملي، بل والتغني والتغزل، في جمالٍ آخر للمرأة الريفية، جمالٍ يتبدى في صبرها وعطائها ومشاركتها الصامتة في بناء الحياة، مقارنةً بالرجل الريفي.

• ومن هذا الجمال الإنساني تنبثق مقارنةٌ أخرى أكثر واقعية، ليست في الملامح أو العواطف، بل في الأدوار الاقتصادية والاجتماعية التي ينهض بها كلٌّ من الرجل والمرأة داخل الأسرة الريفية.

• فكثيراً ما تُعقد المقارنات بين الرجال والنساء في مجالات شتّى، غير أن ما يعنيني هنا هو ذلك النوع من المقارنة الذي يتصل بإسهام كلٍّ منهما في دخل الأسرة الريفية ورفع مستوى معيشتها، من خلال كسبهما وتعاملهما مع منتجات ومحاصيل الغابات.

• واستناداً إلى ستٍ وثلاثين دراسة ميدانية أُجريت على مدى ست سنوات، وشملت أكثر من ثمانية آلاف أسرة في خمسٍ وعشرين دولة من دول أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، تبيّن أن غالبية أفراد الأسرة الريفية يشاركون في جمع وتجهيز منتجات الغابات مثل حطب الوقود، ومواد البناء، والأصماغ، والثمار، والأعلاف، والأعشاب الطبية وغيرها.

• غير أن ما يثير الدهشة، هو وجود قدرٍ من التخصص الدقيق بين الذكر والأنثى فيما يتعلق بنوع المحصول أو المنتج الغابي الذي يتولاه كلٌّ منهما.

• وكأن توزيع الأدوار هذا لم يأتِ بقرارٍ أو اتفاق، بل نشأ منسجماً مع الفطرة ومتطلبات البيئة وضرورات العيش المشترك.

• وقد بيّنت تلك الدراسات أيضاً أن قيمة محاصيل الغابات التي يجمعها الرجال تفوق في الغالب قيمة ما تجمعه النساء.

• كما أظهرت أن النساء يمِلن إلى جمع المحاصيل الغابية المخصّصة للاستهلاك المنزلي والمعيشة اليومية، مثل الحطب والأعشاب والثمار، بينما يتجه الرجال إلى جمع المحاصيل ذات القيمة السوقية الأعلى.

• وقد لوحظت كذلك فروقات وتباينات جغرافية في هذا النمط العام؛ فبينما كانت قيمة المنتجات التي يجمعها الرجال في أمريكا اللاتينية تتفوّق بوضوح على تلك التي تجمعها النساء، فإن الوضع في آسيا بدا أكثر توازناً، إذ لم تُسجل فروقٌ تذكر بين الجنسين في قيمة ما يجمعانه.

• أما في أفريقيا، فقد جاءت النتائج بعكس الاتجاه، إذ تفوقت النساء في القيمة الإجمالية لما يجمعنه من منتجات ومحاصيل غابية.

• ومع ذلك، فقد اتضح أن الرجال في القارات الثلاث جميعها يلعبون الدور الأبرز في مراحل التصنيع والتجارة، مما يجعلهم الأوفر حظًّا من حيث العائدات الاقتصادية المتعاظمة.

• خلاصة القول:

أولاً، يتضح أن النوع – ذكراً كان أم أنثى – يمثل عنصراً محورياً في إعداد السياسات والبرامج الغابية، وأن إغفال دوره يخل بفاعلية أي تدخل تنموي في هذا المجال.

ثانيًا، استناداً إلى الفروقات والتباينات الجغرافية التي كشفتها الدراسات، فإن وضع سياسة عامة موحدة للتعامل مع قضايا النوع أمرٌ غير ممكن، إذ تتباين الأدوار والعلاقات باختلاف البيئات والثقافات.

ثالثاً، يؤكد التميّز الواضح في تخصص كلٍّ من الذكر والأنثى في التعامل مع منتجات الغابات، والدور الفاعل الذي تضطلع به المرأة الأفريقية في التأثير على النظم الغابية واستدامتها.

• وعلى الصعيد الوطني، تشير دراسات الهيئة القومية للغابات إلى أن الغابات التي تُسهم بأكثر من 80% من إجمالي الطاقة المستهلكة في البلاد، أن نحو ثلثي هذه الكميات من الحطب النساء يجمعنها النساء بالمجان لغرض الاستخدام المنزلي.

• المثير في هذه النتائج أن نسبة البلاغات ضد النساء المتعاملات بمنتجات الغابات لم تتجاوز 0.05% في المتوسط من مجمل بلاغات المخالفات الكلية خلال عشر سنوات، وهي نسبة متناهية الصغر تعكس حرص النساء على جمع الساقط من الأشجار دون المساس بالأشجار القائمة أو الإضرار بالغابات.

• وهكذا تتجلى عظمة المرأة الريفية، لا في ما تنجزه فحسب، بل في تجسيدها لقيم المسؤولية واحترام الطبيعة، لتغدو بحق الضمير الحي للريف، وروحَ الاستدامة في حياة الوطن.

• فتحيةَ تقديرٍ وإعزازٍ للمرأة الريفية في يومها العالمي، الخامس عشر من أكتوبر، فهي تبني بصمتٍ، وتجود بسخاء، وتغرس في ترابِ الوطن، أسباب البقاء بحبٍ لا ينضب.

آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق.

 

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى