مقالات

رؤية استراتيجية شاملة لإعادة هيكلة المشهد التنموي في السودان

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

رؤية استراتيجية شاملة لإعادة هيكلة المشهد التنموي في السودان

يشهد السودان اليوم مرحلة فارقة تستدعي الانتقال من التخطيط المركزي المحدود إلى التفكير الاستراتيجي الشبكي القائم على التكامل بين الأقاليم. لم تعد التنمية تُقاس بحجم المشاريع في العاصمة، بل بمدى انتشار الفرص وتوزيع مراكز القوة والإنتاج عبر جغرافيا الوطن. وكما قال هنري منتزبيرغ (Mintzberg, 1994):

 و ولاستراتيجية ليست خطة جامدة بل نمط متكرر في تيار القرارات.

إنها إذًا عملية مستمرة تتطلب رؤية متكاملة تربط بين السياسة العامة والبنية المؤسسية وسلوك الأفراد.

أولاً: اللامركزية الفعالة

الخرطوم ليست السودان كله، بل هي مركز للتوجيه الفكري والعلمي يجب أن يُعاد تعريفه ليكون عقل الدولة لا جسدها المكتنز. إن إعادة توزيع الجامعات والكليات من العاصمة إلى الولايات خطوة تأسيسية لتكافؤ المعرفة والتنمية.

وتقترح الرؤية الإبقاء في الخرطوم على ثلاث جامعات فقط كمراكز امتياز بحثي (بحث علمي، طب، تكنولوجيا)، مع نقل بقية الجامعات والكليات إلى الأقاليم وفق ميزة كل ولاية. فالتنمية المعرفية لا تنفصل عن التنمية الجغرافية.

كما يجب نقل المصانع والمؤسسات الإنتاجية إلى الولايات لتتحول إلى محركات تنمية محلية، مدعومة بالبنية التحتية من طرق وسكك حديد ومطارات إنتاجية.

وتُحوّل أراضي مطار الخرطوم القديم إلى متنفس طبيعي وحديقة كبرى كما في تجربة برلين بألمانيا، مع إنشاء مطارات دولية جديدة في المدن الإنتاجية مثل مدني والأبيض وبورتسودان بنظام البوت (BOT)، لتصبح أدوات لتوزيع التنمية لا لتكديسها.

وكما يشير مايكل بورتر (Porter, 1990) في نظريته حول الميزة التنافسية للأمم:

تتحقق الميزة عندما تُبنى القدرات الإنتاجية على الموارد المحلية والابتكار وليس على المركزية أو الاستيراد.

وهذا جوهر رؤيتنا في نقل التنمية إلى حيث توجد الموارد والبشر والإمكانات الفعلية.

ثانيًا: إستراتيجية المدن المتخصصة

لكل مدينة روحها ومهامها، ولكل ولاية ميزتها التنافسية.

الخرطوم: تتحول إلى مدينة سياحية ثقافية تعتمد على تطوير المرافق والخدمات وتنظيم الوجود الأجنبي، مع توجيه الاستثمار نحو السياحة التاريخية والنيلية والطبية.

 مدني وسنار والجزيرة: مدن زراعية صناعية متكاملة تمثل قلب الأمن الغذائي الوطني.

بورتسودان وسواكن: تتحولان إلى موانئ لوجستية عالمية وفق أنظمة الحوكمة الحديثة.

كردفان ودارفور: مراكز إنتاج حيواني وصناعات غذائية وجلود، تستند إلى الاقتصاد الأخضر ومشروعات حصاد المياه.

هذا التصنيف لا يقوم على الجغرافيا فحسب، بل على مفهوم “المدن كمنصات للإنتاج والابتكار” الذي أشار إليه Kaplan & Norton (1996) في نموذجهم عن بطاقة الأداء المتوازن (Balanced Scorecard)، والذي يدعو إلى ربط الرؤية بالأداء المؤسسي عبر محاور: التعلم، العمليات، العملاء، والمالية.

ثالثًا: تحفيز التماسك الاجتماعي

التنمية ليست هندسة اقتصادية فقط، بل مشروع اجتماعي أخلاقي. لذا فإن إصلاح الخدمة المدنية ليشمل حوافز اجتماعية وأسريّة ضرورة لبناء مجتمع مستقر بعد الحرب.

تُقترح علاوات الزواج والأسرة، ومكافآت تصاعدية لمن يرغب في التعدد المشروع حتى أربع زوجات، ضمن ضوابط مؤسسية، كأداة لمعالجة التفاوت الديمغرافي والنزوح والهشاشة الاجتماعية.

كما يجب بناء مجمعات سكنية للعاملين قرب أماكن العمل، أسوةً بالتجربة البريطانية في “المساكن الوظيفية” (Functional Housing)، وتجربة مشروع الجزيرة في بركات حيث كان السكن والعمل نسيجًا واحدًا.

ذلك يرفع الإنتاجية ويُعيد للمؤسسات روحها الاجتماعية المفقودة.

رابعًا: الزراعة والأمن الغذائي

إن إصلاح السودان يبدأ من الأرض. فالزراعة ليست نشاطًا اقتصاديًا فحسب، بل رافعة سيادية للأمن القومي.

وتدعو الرؤية إلى تطوير منظومة الزراعة لتصبح زراعة ذكية متكاملة تشمل:

إنتاج التقاوي المحسّنة.

التكامل بين الزراعة والصناعة الغذائية.

الاستزراع السمكي والحيواني.

إعادة تأهيل السدود والمشاريع الكبرى مثل الجزيرة والرهد.

ويؤكد Mintzberg (2004) أن “الاستراتيجية الفاعلة هي تلك التي تغيّر السلوك قبل أن تغيّر الهيكل”، وعليه فإن تدريب المزارع وإعادة تشكيل وعيه الإنتاجي هو جوهر التحول الحقيقي، أكثر من مجرد استيراد تقنيات أو وضع خطط مكتبية.

خامسًا: البعد المؤسسي والإرادة التنفيذية

كثير من الخطط في السودان سقطت في فجوة التنفيذ لا الفكرة، لأن الإرادة المؤسسية كانت أضعف من الرؤية.

فالخطة بلا حوكمة تتحول إلى وثيقة تجميلية، أما الخطة مع الإرادة فتصبح واقعًا.

يقول Kaplan & Norton (2001) في كتاب The Strategy-Focused Organization:

 الاستراتيجية لا تفشل بسبب ضعف الرؤية، بل بسبب غياب الربط بين الرؤية والتنفيذ.

ولذلك، تقترح الرؤية إنشاء “الدليل الإرشادي للتنفيذ” على مستوى كل وزارة وولاية — وهو المفهوم الذي كنتُ أول من طرحه وطبّقه عمليًا في السودان — ليكون جسرًا بين التخطيط والتنفيذ، وبين الحلم والواقع.

التوصيات

1. اعتماد اللامركزية التنموية كإطار استراتيجي لا كقرار إداري، مع خطة زمنية لنقل مؤسسات التعليم والإنتاج للولايات.

2. تأسيس المجلس الأعلى للتوازن التنموي لمتابعة العدالة في توزيع الموارد.

3. إصدار قانون المدن المتخصصة لتحديد هوية كل مدينة ومجالها الإنتاجي.

4. إصلاح قانون الخدمة المدنية ليشمل الحوافز الاجتماعية والسكنية الإنتاجية.

5. تبني برنامج وطني للزراعة الذكية يربط التعليم والإنتاج والتمويل.

6. اعتماد الدليل الإرشادي للتنفيذ في كل مشروع استراتيجي لضمان استمرارية الرؤية.

إن هذه الرؤية نداء وطني لإعادة بناء السودان على أساس التوازن المعرفي والإنتاجي والاجتماعي.

فكما قال بورتر:

الاستراتيجية الجيدة هي التي تُعيد تعريف المنافسة لا أن تتكيف معها.

وهكذا، فإن السودان الجديد لن يُبنى على المركزية الموروثة، بل على إرادة اللامركزية الواعية — إرادة تحول الحلم إلى خطة، والخطة إلى فعل، والفعل إلى نهضة.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى