مقالات

من وجع الإنسان إلى نهضة الضمير رؤية استراتيجية لإخراج البلاد من الأزمات الاقتصادية المتكررة وسلاسل الإمداد الغذائي

بقلم  : د. محمد صلاح علي الفكي

 

من وجع الإنسان إلى نهضة الضمير

رؤية استراتيجية لإخراج البلاد من الأزمات الاقتصادية المتكررة وسلاسل الإمداد الغذائي

في كل زاوية من زوايا حياتنا اليومية، تتكشف مشاهد المعاناة الإنسانية على شكل فقدان للغذاء، اضطرابات في الإمدادات، وأزمات اقتصادية متكررة تثقل كاهل المواطن العادي. هذه المشاهد ليست مجرد صور عابرة، بل انعكاس لفجوات هيكلية في إدارة الموارد والتخطيط الاستراتيجي، تجعل الدولة عاجزة عن حماية أبسط حقوق الإنسان الأساسية.

إن معالجة هذه الأزمات تتطلب تحولاً استراتيجياً في نظم الإنتاج الزراعي والغذائي. فالزراعة الذكية تمثل إطارًا علميًا متكاملاً يدمج بين التقنيات الحديثة، الإدارة البيئية، والابتكار في الإنتاج لضمان استدامة الموارد وكفاءة سلاسل الإمداد. وتشمل الزراعة الذكية اعتماد نظم الري الحديث مثل الري بالتنقيط والري الذكي المعتمد على الاستشعار الأرضي والطقسي، ما يقلل الفاقد المائي ويزيد الإنتاجية لكل وحدة مساحة. كما تُعتبر الزراعة العمودية والبستنة الحضرية أدوات فعالة لتعزيز الأمن الغذائي داخل المدن، من خلال تحويل المساحات الصغيرة والمنازل والأسطح إلى مصادر إنتاج غذائي مستدام.

البستنة العلمية تلعب دوراً محورياً في تحسين جودة الإنتاج الغذائي، وتقليل الاعتماد على الواردات، وزيادة فرص التوظيف في المجتمعات الريفية والحضرية على حد سواء. من خلال استخدام التسميد العضوي، تدوير المحاصيل، واختيار أصناف مقاومة للأمراض والجفاف، يمكن تحقيق نمو مستدام ومواجهة التحديات المناخية. ويتيح الدمج بين الزراعة الذكية والبستنة المجتمعية تعزيز الإنتاج المحلي وتحسين الوصول إلى الغذاء الطازج، ما يؤدي إلى استقرار الأسعار وتقليل الفقر الغذائي.

سلاسل الإمداد الغذائي تعد العمود الفقري لأي استراتيجية وطنية للأمن الغذائي. من إنتاج الحبوب والخضروات والفاكهة، مرورًا بالتخزين والنقل والتوزيع، وصولاً إلى المستهلك النهائي، يجب أن تكون كل مرحلة مترابطة بكفاءة عالية، مع تقليل الفاقد في النقل والتخزين، وضمان التخزين الذكي واستخدام التكنولوجيا الرقمية لمراقبة المخزون والتحكم في جودة المنتجات. إن وجود سلاسل إمداد متكاملة ومستدامة لا يقل أهمية عن إنتاج الغذاء نفسه، فهو يضمن وصول الغذاء الطازج والآمن إلى كل مواطن ويحد من التقلبات في الأسعار، ويقلل من خطر نقص المواد الغذائية الأساسية أثناء الأزمات.

على المستوى الدولي، هناك تجارب رائدة يمكن الاستفادة منها. على سبيل المثال، هولندا نجحت في تعزيز إنتاجها الزراعي باستخدام الزراعة الذكية والبيوت المحمية، ما جعلها واحدة من أكبر مصدري المنتجات الزراعية الطازجة عالميًا رغم صغر مساحة أراضيها. وسنغافورة ركزت على الزراعة الحضرية والبستنة الذكية داخل المدن، مستفيدة من أسطح المباني وتحويل المساحات الصغيرة إلى إنتاج غذائي مستدام. أما كينيا فقد حسّنت سلاسل الإمداد الغذائي من خلال استخدام تطبيقات رقمية لمراقبة الأسواق وإدارة المخزون، مما قلل الفاقد وساعد صغار المزارعين على الوصول مباشرة إلى المستهلكين.

التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة لن تتحقق إلا من خلال نهضة الإنسان المنتج، الذي يمثل محور أي استراتيجية ناجحة. لذلك، يجب أن تتكامل الجهود بين الإنسان، الأرض، والتقنية، لتصبح الموارد أداة للنماء لا للبؤس، والإنتاج الوطني قاعدة للسيادة الاقتصادية والاجتماعية، وضمان وصول الغذاء للمواطنين بكفاءة وعدالة. ويجب ربط الأداء بالنتائج القابلة للقياس لضمان شفافية المساءلة وتعزيز الضمير المؤسسي، ما يخلق نظامًا يعمل بكفاءة وفاعلية في جميع مستويات الإدارة.

توصيات استراتيجية لتعزيز الزراعة الذكية وسلاسل الإمداد الغذائي:

1. تطوير منظومة البحوث الزراعية: التركيز على أصناف مقاومة للجفاف والآفات، واستخدام تقنيات الزراعة الدقيقة لتحسين الإنتاجية، وربط نتائج البحث بالسياسات الوطنية لدعم الإنتاج المحلي.

2. تعزيز التدريب والتأهيل المهني: إعداد كوادر متخصصة في الزراعة الذكية والبستنة الحديثة، وربط التدريب بسوق العمل المحلي لضمان الاستدامة الاقتصادية، بما يشمل إدارة سلاسل الإمداد بكفاءة.

3. تحسين نظم الري والإمدادات المائية: اعتماد تقنيات الري الذكي والتخزين الأمثل للمياه، مع تقليل الفاقد في النقل والتوزيع، بما يضمن استقرار الإنتاج على مدار العام.

4. تنمية الزراعة الحضرية والبستنة المجتمعية: تشجيع استخدام الأسطح والفناءات لإنتاج الغذاء، مما يقلل الاعتماد على الواردات ويزيد من توفر الغذاء الطازج، مع ربط الإنتاج المحلي بسلاسل الإمداد لتوصيل الغذاء إلى الأسواق الحضرية بسهولة.

5. تفعيل الشراكات بين القطاعين العام والخاص: لضمان تمويل المشاريع الزراعية الذكية وسلاسل الإمداد الغذائية، وتسهيل الوصول إلى الأسواق المحلية والدولية، مع تبني أساليب إدارة مبتكرة لتقليل الهدر وتحسين الجودة.

6. تعزيز الاستدامة البيئية: من خلال تدوير المحاصيل، التسميد العضوي، والحفاظ على التنوع البيولوجي في الزراعة، لضمان إنتاج طويل الأمد وصحي، مع مراعاة أثر كل خطوة على سلاسل الإمداد لضمان الاستمرارية.

7. الرقمنة والإدارة الذكية لسلاسل الإمداد: استخدام نظم رقمية لمراقبة المخزون، تحليل الطلب، وتوقع الاحتياجات المستقبلية، مما يقلل الهدر ويضمن وصول المنتجات الغذائية إلى كل المناطق بكفاءة.

من وجع الإنسان ينبثق ضمير واعٍ، ومن ضمير واعٍ ينطلق العمل الاستراتيجي المتكامل. هذا العمل يستهدف تحقيق نهضة وطنية شاملة تستعيد الكرامة، وتعزز الإنتاجية، وتحقق الأمن الغذائي والاقتصادي لكل المواطنين. الطريق نحو الاستقرار والتنمية المستدامة يبدأ من معالجة الفجوات الهيكلية، ويستمر بتفعيل الزراعة الذكية، تحسين إدارة الموارد، تطوير سلاسل الإمداد الغذائية، وصولاً إلى مجتمع قادر على الصمود، والإنتاج، والابتكار.

إن النهضة الوطنية الحقيقية تبدأ حين يتحول ألم المواطن إلى قوة دافعة للضمير المؤسسي والعمل الاستراتيجي، لتصبح التنمية الاقتصادية والاجتماعية هدفًا متحققًا ومكانًا للفرص لكل فرد في المجتمع. الزراعة الذكية، البستنة، وسلاسل الإمداد الغذائي ليست مجرد تقنيات وإجراءات، بل أدوات لبناء وطن منتج، مستدام، ومتماسك في وجه الأزمات المستقبلية.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى