من فافلوف إلى الطاهر إبراهيم: رحلة حفظ التنوع الوراثي في الزراعة السودانية
بقلم : د.عبد العظيم ميرغني

من فافلوف إلى الطاهر إبراهيم: رحلة حفظ التنوع الوراثي في الزراعة السودانية
عود على بدء
• ذكر الشاعر إسماعيل حسن أنه حين قرر السفر إلى مصر لدراسة الزراعة، استغرب بعض أقربائه وسألوه باستنكار: “هي الزراعة دي دايرة قراية؟”
• وبالمثل، روي بروفيسور عبد الله أحمد عبد الله أنه عندما قُبل مع زملائه في كلية الزراعة في الخمسينيات، كان عليهم قضاء عامين في كلية العلوم قبل الانتقال للزراعة. وبعد انقضاء المدة، حاول عميد كلية العلوم إغرائهم بالبقاء، لكنه لم يفلح، وقال مبتسمًا بمرارة: “هذا العشب، درستموه أو لم تدرسوه، فسوف ينمو”.
• في الحرم الجامعي، ترددت مثل هذه الدعاوى كثيراً إذ أن بعض الأساتذة كانوا يسخرون من طلاب الزراعة، معتبرين هذا المسار ثانويًا مقارنة بالطب مثلاً.
• هذه الحكايات ليست مواقف فردية، بل تعكس نظرة متوارثة في الوعي العام اختزلت الزراعة في مجرد مصدر معاش، متجاهلة بعدها العلمي والتنموِي، رغم كونها أساس الحياة وعماد اقتصاد البلاد.
• ورغم هذه النظرة الدونية والتهميش المستمر، نشأت أجيال من الزراعيين الذين تحدوا هذه الصورة المقللة وأثبتوا أن الزراعة علم وإبداع لا يقل شأنًا عن أي مجال آخر.
• من أبرز هؤلاء البروفيسور محمود أحمد محمود، “أبو الذرة السوداني”، الذي نال تقدير الدولة عبر جائزة الإبداع العلمي، لتأسيسه برنامج بحوث الذرة، وابتكار أصناف متميزة مثل وود أحمد الذي انتشر في السودان ودول الجوار.
• ومن الأمثلة الأخرى، من أبناء دفعة الدراسة، على سبيل المثال، الدكتور عبد الوهاب حسن عبد الله، الحائز على وسام الجدارة عام 2006، الذي نجح في إنتاج سلالات عالية الإنتاجية ومتعددة الألوان مثل القطن الأخضر والبني. والكركدي، بألوان سبعة من الأصفر إلى البنفسجي، ما رفع القيمة التجارية والبيئية لهذه المحاصيل، وفتح أمامها آفاقًا أوسع للاستخدام والتسويق.
• والدكتور عبد الله سليمان عبد الله، وزير الزراعة والغابات الأسبق، الذي جمع بين الإدارة الزراعية والإبداع الفني. وأسهم في توسيع قاعدة الإنتاج وتنويع المحاصيل خارج الموسم، وقدم مشروع «الاستفادة من الغابة دون الأرض» لدعم المجتمعات المحلية وحماية الغابات. كما أطلق مبادرات مثل «الزراعة الغابية في سطور»، فأسهم بذلك في تطوير مفاهيم إدارة الغابات في السودان، جامعًا بين الخبرة العلمية والرؤية التطبيقية.
• ورغم تميز هذه الشخصيات وإنجازاتها، فإن تأثيرها ظل محدودًا داخل الدوائر المتخصصة، ولم ينل الاعتراف الشعبي والمؤسسي الذي يستحقه.
• لقد كانت هذه النماذج تعمل في صمت، في ظل غياب الإعلام العلمي والتوثيق، الذي يُظهر للعالم أن السودان أنجب عقولا زراعية مبدعة أسهمت في تطوير محاصيله وتعزيز مكانته البحثية.
• وبالأمس، عقب نشر مقالتنا عن الدكتور الطاهر إبراهيم، “فافلوف السودان”، أعرب كثيرون عن تقديرهم لإنجازاته، وطالب بعضهم بمنحه وسام الإنجاز وإعادته للخدمة استثنائيًا. فقد كرّس حياته لحفظ الموارد الوراثية الزراعية السودانية، وحوّل مهمة الحفظ من مشروع بحثي إلى قضية وطنية واستراتيجية.
• هذه التفاعلات تعكس وعيًا متجددًا بقيمة الزراعة والزارعين الذين أسسوا بصمت مسار الزراعة العلمية في السودان. والاعتراف بالزراعة كعلم وممارسة استراتيجية.
• ومن هنا، تبرز الحاجة إلى تعزيز ربط البحث بالميدان والإعلام لنشر المعرفة وإعادة الاعتبار للزراعة، هذا القطاع الحيوي.
• الزراعة في السودان ليست مجرد وسيلة للمعيشة، بل علم وحضارة تُبنى عليها نهضة الأمة.
• إنجازات أجيال العلماء والزراعيين المبدعين تثبت كيف يمكن للإنسان تحويل الأرض إلى إرث علمي وحضاري، ما يجعل تكريم الباحثين والزراعيين عموماً والمزارعين، والتعريف بمجهوداتهم عنصراً أساسياً لإدارة ذكية ومستدامة لهذا القطاع الحيوي.
آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق.