مقالات

الآثار النفسية العميقة للحرب في السودان: رؤية استراتيجية للبناء والنهضة

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

الآثار النفسية العميقة للحرب في السودان: رؤية استراتيجية للبناء والنهضة

تُعد الحرب من أبشع الكوارث التي تصيب الشعوب، ليس فقط بما تخلّفه من دمارٍ مادي وفقدٍ بشري، وإنما بما تزرعه من جروحٍ نفسية غائرة قد تبقى آثارها أعمق وأطول عمرًا من ركام المباني. وقد عايش السودانيون خلال هذه المحنة مشاهد مؤلمة وجرائم تقشعر لها الأبدان، حتى أن كثيرًا ممن سمعوا عنها من خارج البلاد لم يحتملوا متابعة تفاصيلها، فكيف بمن كان في قلبها؟ هذا البعد النفسي هو المدخل لفهم عمق الكارثة، وهو ما يفرض علينا التفكير في رؤية إصلاحية متكاملة تعيد التوازن للإنسان السوداني، وتستنهض فيه القدرة على النهوض والبناء.

إن النجاة الفردية لبعض الأسر من ويلات الحرب، كما حدث معي حين ساقني تدبير الله إلى الخروج قبل اندلاعها مباشرة، لا تعني الانفصال عن المأساة، بل تزيد من حجم المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية تجاه من ظلوا عالقين وسط الخطر. فقد كان من الممكن أن تكون عائلتي ضمن من شملتهم المخاطر، وهو ما يضاعف الشعور بالامتنان لله، ويستوجب شكر النعمة بالعمل الجاد على المساهمة في إعادة البناء النفسي والاجتماعي والمؤسسي للمجتمع.

لقد شكلت الأحداث التي جرت في مناطق مثل الجزيرة وود النور وغيرها، بما خلفته من ضحايا مدنيين، صدمة مجتمعية تتجاوز إطار الفرد إلى بنية المجتمع نفسه. هذه المآسي تستدعي أن يلتف الشعب السوداني حول هدف جامع يقوم على وحدة الصف، وصون الأرض والعرض، والانخراط في مسار بناء تنموي متين. فإرادة الشعوب لا تُقهر، والتجارب التاريخية تثبت أن المجتمعات الخارجة من الحرب تستطيع النهوض متى ما امتلكت الرؤية والإرادة.

الوجود الأجنبي في الخرطوم خلال الحرب مثّل مشهدًا صادمًا ومثيرًا للتساؤلات، إذ ظل الأجانب يقيمون في العاصمة في وقت نزح فيه المواطنون وفقدوا بيوتهم وممتلكاتهم. هذا التناقض يعكس خللاً في مفهوم السيادة والعدالة، ويضاعف الأثر النفسي والاجتماعي على الشعب الذي وجد نفسه مشردًا بينما بقي الغرباء أكثر استقرارًا في أرضه. إن بقاء الأجنبي داخل الخرطوم لا يمكن النظر إليه بوصفه مجرد حضور عابر، بل هو ملف استراتيجي يرتبط مباشرة بالأمن الوطني والعلاقات الدولية وإدارة الدولة لحقوق مواطنيها، وهو ما يستدعي مراجعة جادة وحازمة تعيد الاعتبار للمواطن السوداني كصاحب الأرض والأولوية في الحماية والاستقرار.

إن إعادة البناء ليست شأنًا نفسياً أو اجتماعياً فحسب، بل هي ملف استراتيجي متشابك الأبعاد. من الناحية الاقتصادية، تتطلب المرحلة إعادة توجيه الموارد نحو مشروعات دعم الإنتاج والعدالة الاجتماعية، بما يتيح للنازحين واللاجئين العودة التدريجية إلى دورة العمل والإنتاج. ومن الناحية الاجتماعية، يتطلب الأمر بناء برامج لإعادة التأهيل النفسي للضحايا والأطفال تحديدًا، حتى لا تُترك الأجيال الجديدة رهينةً لصدمة الحرب. وعلى الصعيد الإداري، فإن إدارة ملف النازحين والمعسكرات تحتاج إلى نظم حديثة للحوكمة والشفافية، تكفل الحقوق وتمنع التجاوزات. أما البعد القانوني فيفرض محاسبة من ارتكبوا الجرائم، وضمان العدالة الانتقالية كشرط أساس لطي صفحة الماضي. ويوازي ذلك البعد الدبلوماسي، الذي يستلزم التعامل بحكمة مع المجتمع الدولي، واستثمار الدعم الخارجي في إعادة الإعمار دون المساس بالسيادة الوطنية.

كل ذلك يشير إلى أن الحرب لم تترك أثرها في الخراب وحده، بل في إعادة تشكيل هوية المجتمع السوداني ووعيه الجمعي. فالمواطنون الذين نزحوا من بيوتهم قسرًا، وتوزعوا بين معسكرات اللجوء أو مدن الداخل، يعانون شعورًا مضاعفًا بالفقد والخذلان، بينما ظلّت بعض الفئات الأخرى في العاصمة تواجه مخاطر مختلفة. هذه المفارقات تؤكد الحاجة إلى مشروع وطني شامل يدمج إعادة البناء المادي مع التعافي النفسي والاجتماعي.

إن الأثر النفسي للحرب لا يمكن أن يزول بمجرد وقف إطلاق النار، بل يتطلب مقاربة شاملة تُعالج الجرح العميق في الضمير الجمعي. وهذا يقتضي وضع خطط استراتيجية متدرجة تشمل: إعادة تأهيل الأفراد نفسيًا، دعم الأسر في مواجهة الفقد، إعادة الاعتبار للمؤسسات التعليمية والصحية، وتوفير بيئة إنتاجية تحرر الناس من أسر المساعدات الإنسانية إلى رحاب الكرامة عبر العمل والإنتاج.

التوصيات

1. إطلاق برنامج وطني شامل للتعافي النفسي والاجتماعي، يركز على الأطفال والنساء والشرائح الأكثر تأثرًا بالحرب.

2. دمج البعد النفسي في كل خطط إعادة الإعمار والتنمية، باعتباره أساسًا للاستقرار والإنتاج.

3. إعادة بناء المؤسسات التعليمية والصحية كأولوية قصوى لضمان عودة الحياة الطبيعية بسرعة.

4. تفعيل العدالة الانتقالية لمعالجة الانتهاكات، بما يحفظ حقوق الضحايا ويمنع تكرار الجرائم.

5. إنشاء آليات إدارية حديثة لإدارة ملف النازحين واللاجئين، تضمن العدالة والشفافية وتفتح مسارات العودة الطوعية.

6. مراجعة ملف الوجود الأجنبي في العاصمة بعين استراتيجية تحفظ السيادة وتعيد الاعتبار للمواطن السوداني أولًا.

7. تعبئة الجهد الدبلوماسي لاستقطاب الدعم الدولي، مع الحفاظ على القرار الوطني المستقل.

8. تعزيز الثقافة المجتمعية القائمة على وحدة الصف والتكافل والإنتاج، باعتبارها الضمانة الحقيقية لنهضة ما بعد الحرب.

رغم عمق الجراح وفداحة المأساة، فإن هذه الحرب قد تفتح بابًا جديدًا أمام السودانيين ليعيدوا اكتشاف أنفسهم وقدرتهم على البناء من تحت الركام. إن ما يحتاجه السودان اليوم ليس مجرد إعادة إعمار المباني، بل إعادة بناء الإنسان: وجدانه، ثقته بنفسه، قدرته على الإنتاج، وإيمانه بأن وطنه يستحق التضحية والعمل. وإذا كان الألم قد عمّ الجميع، فإن الأمل كذلك يمكن أن يوحدهم. وعلى قدر البلاء يكون الجزاء، ومن رحم المعاناة قد تولد نهضة حقيقية إذا ما توحدت الرؤية والإرادة، وقام الشعب بمسؤولياته التاريخية في حماية أرضه وصون عرضه وبناء مستقبله.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى