مقالات

سد النهضة والفيضان العظيم: بين العلم والسياسة وإدارة الأزمة في السودان

بقلم  : د. محمد صلاح علي الفكي

 

سد النهضة والفيضان العظيم: بين العلم والسياسة وإدارة الأزمة في السودان

يشهد السودان هذه الأيام مرحلة حرجة من تاريخه الحديث، إذ تتقاطع العوامل الطبيعية والسياسية والمؤسسية في مشهد واحد، لتصنع أزمة مركبة تتمثل في خطر فيضان غير مسبوق على ضفاف النيل الأزرق. فالفيضان الحالي ليس حدثًا عابرًا، بل نتيجة لتراكم معقد من العوامل: التغيرات المناخية، اكتمال الدورات المطرية، ضعف البنية المؤسسية، وإدارة أحادية الجانب لسد النهضة. هذه العناصر مجتمعة تجعل السودان أمام امتحان عسير: إما أن يواجه الخطر بعلم وحكمة، أو يترك نفسه فريسة لارتجال قد يقود إلى كارثة إنسانية.

تشير القراءات المناخية والهيدرولوجية إلى أن المنطقة تعيش اكتمال دورة مطرية تاريخية تحدث كل مئة عام تقريبًا. هذه الدورة تعني أن الأمطار الغزيرة على الهضبة الإثيوبية ستؤدي إلى تدفقات عالية في النيل الأزرق. بالفعل، تجاوزت معدلات الأمطار المعدلات الطبيعية، كما ارتفع الفاصل المداري شمالًا، ما أطال موسم الخريف وزاد من السيول الموسمية.

تاريخيًا، عرف السودان فيضانات مدمرة أعوام 1946 و1988 و2020. لكن ما يواجهه اليوم قد يفوق تلك التجارب، إذ اجتمعت العوامل الطبيعية مع غياب الجاهزية المؤسسية. السدود السودانية – الروصيرص، سنار، مروي، وجبل أولياء – لم تتم صيانتها أو إدارتها وفق خطط طوارئ متكاملة، ما جعلها غير مهيأة لامتصاص الصدمات المائية الضخمة.

سد النهضة الذي رُوِّج له كمشروع تنموي إقليمي تحوّل عمليًا إلى أداة سياسية في يد إثيوبيا. فتح البوابات وتخزين المياه دون تنسيق مسبق مع السودان جعل السد عنصر تهديد مباشر، خاصة في ظل الانهيار المؤسسي الداخلي. تجاهل أديس أبابا للاتفاقيات التاريخية مثل اتفاقية 1902 بشأن بني شنقول أضعف الثقة وزاد من هشاشة الوضع الإقليمي.

بالنسبة للسودان، غياب التنسيق الإقليمي وتآكل القدرة التفاوضية بسبب الحرب الداخلية جعلاه الحلقة الأضعف، رغم أنه الأكثر عرضة للضرر المباشر من السد. وهكذا تحول ملف مائي علمي بحت إلى ورقة صراع سياسي إقليمي، يدفع ثمنها المواطن السوداني البسيط.

الأزمة كشفت بجلاء هشاشة البنية المؤسسية السودانية. وزارة الري فقدت معظم كوادرها الفنية بفعل الهجرة والظروف الأمنية، بينما تراجعت قدرات الولايات على إدارة الطوارئ. لم تُفعَّل نظم الإنذار المبكر ولا خطط الإخلاء، وغابت القيادة المركزية الموحدة لإدارة الأزمة. في المقابل، عادت التجارب الشعبية القديمة مثل النفير لتؤكد قدرة المجتمع على التعاضد، لكنها ظلت جهدًا مشتتًا بلا إطار رسمي جامع.

من التشخيص إلى إدارة الأزمة

التحليل العلمي وحده لا يكفي، كما أن الجدل السياسي لا يغني عن التدخل العملي. المطلوب الآن خطة ثلاثية المستويات:

أولًا: إجراءات طوارئ عاجلة (72 ساعة)

خفض منسوب خزان جبل أولياء فورًا لاستيعاب جزء من التدفقات.

تشغيل السدود السودانية بخطة موحدة لتوزيع المياه ومنع الانهيار المفاجئ.

إخلاء القرى المنخفضة على ضفاف النيل الأزرق والخرطوم.

دعم الجسور الواقية بالآليات الثقيلة وأكياس الرمل.

تجهيز مراكز إيواء عاجلة في المدارس والمساجد والمباني الحكومية.

ثانيًا: التعبئة المجتمعية الشعبية

إعادة إحياء ثقافة النفير عبر لجان المقاومة والروابط الشبابية.

تكوين فرق إنقاذ محلية مدعومة بالقوارب والعربات الميدانية.

تفعيل قنوات الإعلام الشعبي (واتساب – إذاعات محلية) لنشر الإنذارات المبكرة.

توفير الدعم اللوجستي من رجال الأعمال والقطاع الخاص للمتضررين.

ثالثًا: المسار الاستراتيجي المتوسط المدى

تشكيل لجنة قومية عليا تضم كبار مهندسي الري السودانيين وتمنح تفويضًا كاملاً.

إصدار بيانات علمية يومية بالأرقام، بعيدًا عن التسييس.

التنسيق مع الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة لإدراج الملف ضمن أجندة الأمن الإنساني.

تحويل الفائض المائي إلى فرصة إنتاجية عبر توسيع الرقعة الزراعية، تغذية مشروع الجزيرة والمناقل، وملء البحيرات الطبيعية لاستخدامها في الري الصيفي.

 الكارثة والفرصة

إن فيضان 2025 ليس مجرد كارثة طبيعية محتملة، بل حدث استراتيجي يعكس علاقة الإنسان بالعلم والسياسة. قد يكون الفيضان القادم وبالًا إذا ظل السودان حبيس الارتجال وضعف المؤسسات، لكنه قد يتحول إلى فرصة تاريخية إذا أحسن إدارة الفائض المائي لصالح الزراعة والطاقة وحصاد المياه.

المعادلة بسيطة في ظاهرها وصعبة في تطبيقها:

العلم يقدّم الحلول.

السياسة الرشيدة تضمن التنفيذ.

المجتمع المتكاتف يصنع الصمود.

بهذا المزيج فقط يمكن أن يخرج السودان من محنته، ويحوّل الفيضان العظيم من تهديد وجودي إلى رافعة تنموية تضع البلاد على عتبة مستقبل أكثر أمانًا واستقرارًا.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى