من إدارة الفكرة إلى إدارة الموارد: رؤية استراتيجية لمستقبل السودان المائي
بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

من إدارة الفكرة إلى إدارة الموارد: رؤية استراتيجية لمستقبل السودان المائي
“من يملك خطة الإدارة، يملك زمام القرار.”
في عالم يتسارع فيه الصراع على الموارد، تصبح إدارة المياه ليست مسألة فنية فحسب، بل قضية أمن قومي وتنمية مستدامة. بالنسبة للسودان، يمثل سد النهضة تحديًا وفرصة في آن واحد، شرط أن نتعامل معه برؤية استراتيجية قائمة على الحقائق العلمية والحقوق المشروعة.
أولًا: ما الذي يهم السودان الآن وفورًا؟
وفق ما أوضحه البروفيسور محمود الحكيم، هناك ثلاث ركائز أساسية ينبغي التركيز عليها في أي حوار أو مفاوضات:
1. اتفاقية شراكة في إدارة المياه
مشاركة السودان، ولو بصفة مراقب، في إدارة وتشغيل سد النهضة، أمر حتمي لضمان التخطيط السليم لإدارة خزاناته ومشروعات الري.
أي تعديل أو فتح أو إغلاق في بوابات السد يؤثر على خزان الروصيرص خلال نصف ساعة، مما يجعل التنسيق الفوري ضرورة وليست رفاهية.
2. الدراسات العلمية الغائبة
تقييم الأثر البيئي Environmental Impact Assessment لم يتم كما ينبغي، رغم كونه أساسيًا لمعرفة تبعات المشروع على البيئة والنظام الإيكولوجي.
دراسة سيناريو انهيار السد – Dam Break، وتحديد آثاره المحتملة على المجتمعات والبنية التحتية في السودان.
3. إشكالية ملكية المياه وفكرة بيعها
الموقف الإثيوبي القائم على اعتبار مياه النيل الأزرق ملكية إثيوبية، ومنح السودان ومصر “جزءًا” منها، يفتح الباب أمام تقنين بيع المياه مستقبلًا.
هذا النهج سبق أن طُرح ضمن اتفاقيات عنتيبي، وهو ما يتطلب من السودان موقفًا قانونيًا ودبلوماسيًا متماسكًا.
رغم أن التغيرات المناخية جعلت المياه متوفرة حاليًا بكميات أكبر، فإن ذلك لا يلغي الحاجة إلى اتفاقيات مُحكمة تحمي الحقوق المائية.
البعد الاستراتيجي التطبيقي
للانتقال من موقع المراقب المتأثر إلى الفاعل المؤثر، يجب وضع خطة تطبيقية تشمل:
1. تأسيس وحدة وطنية دائمة لإدارة ملف سد النهضة تضم خبراء هندسة المياه، القانون الدولي، الاقتصاد، والدبلوماسية.
2. إعداد دراسات بيئية وهيدرولوجية مستقلة، وتحديثها دوريًا، لتكون مرجعًا فنيًا في المفاوضات والقرارات.
3. إنشاء مركز وطني لمراقبة تدفقات النيل الأزرق لحظيًا، وربطه بأنظمة الإنذار المبكر للطوارئ المائية.
4. إدراج ملف المياه ضمن استراتيجية الأمن القومي، وربطه بخطط التنمية الزراعية والصناعية.
5. بناء تحالفات إقليمية مع الدول المتشاطئة على أساس المصالح المشتركة، وتبادل المعلومات الفنية والتقنية.
هياكل التنفيذ المقترحة
المستوى الوطني (قيادة):
المجلس الأعلى للمياه والأمن المائي لإقرار السياسات العليا.
اللجنة الوطنية لسد النهضة لمتابعة المفاوضات والتنفيذ.
المستوى الفني (التطبيق):
مركز أبحاث وإدارة الموارد المائية لمتابعة التدفقات، النمذجة الهيدرولوجية، والدراسات البيئية.
وحدة الاستجابة السريعة للطوارئ المائية.
المستوى الرقابي:
هيئة مستقلة لتقييم الأداء والأثر البيئي والاجتماعي.
المستوى المجتمعي:
منصات توعية وإعلام مجتمعي لشرح الموقف المائي للسكان، وتحفيز المشاركة الشعبية في ترشيد الموارد.
سد النهضة ليس مجرد مشروع مائي خارج حدودنا، بل مؤشر على موقعنا في معادلة إدارة الموارد. إن امتلاك السودان لآليات مراقبة وتشغيل مشتركة، ودراسات علمية دقيقة، وتحالفات إقليمية متوازنة، سيحوله من متلقٍ لنتائج قرارات الآخرين إلى شريك فاعل في صياغة مستقبل النيل.
فالمياه ليست مجرد تدفق طبيعي، بل أداة سيادة وركيزة نهضة، ومن يحسن إدارتها يحسن صياغة تاريخه ومستقبله.