مقالات

الحسد والغيرة وروح التنافس البناء: دراسة شاملة من منظور نفسي واجتماعي واستراتيجي

بقلم  : د. محمد صلاح علي الفكي

 

الحسد والغيرة وروح التنافس البناء: دراسة شاملة من منظور نفسي واجتماعي واستراتيجي

تُعد مشاعر الحسد والغيرة وقبطة الخير للغير من الظواهر النفسية والاجتماعية التي تؤثر بشكل مباشر على الأفراد والمؤسسات والدول. هذه المشاعر يمكن أن تكون قوة إيجابية تدفع نحو الابتكار والتفوق، أو قوة سلبية تعيق الإنجاز وتدمر العلاقات وتضعف الإنتاجية.

لفهم هذه الظواهر، نستحضر الدروس من التاريخ والدين والتجارب العملية، مثل قصة قابيل وهابيل، وتجارب أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وتجربة البالونات التي طرحها مهاتير محمد كنموذج للتنافس السلبي و إدارة التنافس والبناء الجماعي.

1. قابيل وهابيل: الغيرة والحسد وأثرهما

قال تعالى:

> ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]

هابيل قدّم قربانًا بإخلاص فقبل الله قربانه.

قابيل قدم قربانًا بلا إخلاص، فرفض الله قربانه.

بدل أن يتوب قابيل، امتلأ حسدًا وغيرة، حتى قتل أخاه.

الدروس المستفادة:

القبول عند الله مرتبط بالإخلاص والتقوى، وليس بالمظاهر.

الحسد والغيرة إذا تُركت دون تهذيب قد تؤدي إلى أبشع الجرائم.

الغيرة الطبيعية يمكن توجيهها للتغيير الإيجابي، أما الغيرة غير الموجهة فهي مدمر.

2. السيدة سارة رضي الله عنها: الغيرة والتحفيز النفسي والاجتماعي

عاشت السيدة سارة مع نبي الله إبراهيم عليه السلام سنوات طويلة بلا ذرية حتى شاخت، بينما أنجبت هاجر رضي الله عنها. اشتعلت الغيرة في نفسها، لكنها لم تكن مجرد عاطفة سطحية، بل كانت دافعًا نفسيًا قويًا فجّر الدعاء واللجوء إلى الله، حتى جاءت البشارة المعجزة بإنجاب إسحاق رغم العقم وكبر السن:

﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: 71]

البعد النفسي والاجتماعي في قصة سارة وهاجر

بعد إنجاب هاجر رضي الله عنها إسماعيل، اشتعلت الغيرة لدى سارة بشكل طبيعي كإنسانية فطرية.

لم يكن الهدف من هذه الغيرة سلبيًا بالكامل، بل كانت دافعًا نفسيًا وأداة لإثبات دورها في الأسرة والضغط على الأحداث لتستمر الرسالة الإلهية.

لتخفيف التوتر الناتج عن الغيرة، أصدر الله حكمة استراتيجية بأن يسكن إبراهيم هاجر وابنها إسماعيل في وَادٍ غير ذي زرع، أي في مكان مستقل يتيح لكل طرف مساحته، مع الحفاظ على الرسالة والغاية الكبرى.

الدروس المستفادة:

1. الغيرة الطبيعية يمكن أن تكون دافعًا إيجابيًا إذا أُديرت بحكمة.

2. اتخاذ قرارات استراتيجية لتوزيع الأدوار والمساحات يقلل النزاعات ويضمن استمرارية الرسالة أو الهدف الأكبر.

3. التوازن النفسي والاجتماعي أساسي في إدارة العلاقات المعقدة داخل الأسرة أو أي فريق أو مؤسسة.

3. السيدة عائشة رضي الله عنها: الغيرة والمراقبة الاجتماعية

روى البخاري أن إحدى أمهات المؤمنين أرسلت إناء طعام إلى بيت النبي ﷺ، فكسرت السيدة عائشة الإناء بدافع الغيرة. جمع النبي ﷺ الطعام بنفسه وقال: “غارت أمكم”، ثم عوّض الإناء المكسور بآخر سليم.

الدروس المستفادة:

الغيرة أمر فطري لا يُلام عليه إذا لم تتجاوز حدود الشرع.

التعامل الحكيم مع المواقف يطفئ الفتنة ويحفظ الحقوق.

الإدارة الرحيمة للنزاعات الأسرية والاجتماعية تحول المشاعر السلبية إلى فرصة للتعليم والتوازن.

4. تجربة البالونات: التعاون مقابل التنافس السلبي

قام مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا الأسبق، بإجراء تجربة تعليمية للشباب:

أعطى كل مشارك بالونًا وطلب منه ربطه في قدمه، وقال: “المطلوب منكم أن تحافظوا على بالوناتكم حتى نهاية الوقت.”

انشغل المشاركون بمحاولة فرقعة بالونات الآخرين بدل التركيز على حماية بالوناتهم.

النتيجة: لم يبقَ أي بالون سليم تقريبًا.

بعد انتهاء المسابقة قال مهاتير:

“كان يمكن أن تحافظوا جميعًا حتى نهاية الوقت على بالوناتكم لو تعاونتم بدل أن ينشغل كل واحد بمحاولة فرقعة بالونات الآخرين.”

المغزى:

التنافس السلبي يؤدي إلى الخسارة الجماعية.

التعاون والتركيز على الهدف المشترك يحقق النجاح لكل الفريق.

الدرس الاستراتيجي: إدارة الجهود بشكل جماعي وتحويل الطاقة السلبية إلى إيجابية يحقق النتائج المرجوة.

5. التحليل النفسي والاجتماعي والاستراتيجي

1. الغيرة والحسد مشاعر طبيعية، لكنها تتحول إلى سلوك مدمر إذا لم تُدار.

2. ضعف الثقة وتفكك العلاقات، وانتقال الغيرة للأجيال الجديدة.

3. انخفاض الإنتاجية وهدر الموارد، وتعطيل المشاريع الوطنية.

4. ضعف الأداء المؤسسي وتأخر تنفيذ الاستراتيجيات، وزيادة النزاعات بين القيادات والموظفين.

5. ضعف احترام القوانين، وصعوبة إدارة الخلافات والتفاوض داخليًا وخارجيًا.

6. التوصيات

1. تحويل الغيرة إلى دافع إيجابي عبر برامج تدريبية.

2. تعزيز التعاون المؤسسي وربط المكافآت بالإنجازات الجماعية.

3. نشر التثقيف القانوني والأخلاقي لاحترام حقوق الآخرين.

4. إنشاء وحدات لإدارة النزاعات بحكمة واحترافية.

5. استخدام تجارب عملية مثل تجربة البالونات لتعليم الفرق والمؤسسات.

6. تطوير مهارات التواصل لتفادي سوء الفهم.

7. المراقبة والتحليل المستمر لتأثير الحسد على الأداء واتخاذ إجراءات تصحيحية.

الحسد والغيرة ليست مجرد مشاعر، بل عوامل استراتيجية تؤثر على الأداء الفردي والجماعي والاجتماعي والاقتصادي والإداري.

إذا أُديرت بحكمة، تتحول إلى طاقة دافعة نحو الإبداع والابتكار.

إذا تُركت بلا تهذيب، قادت إلى النزاعات والتدمير الذاتي.

إدارة ذكية للمشاعر والتنافس تعزز روح التعاون وتفتح الطريق أمام نهضة الأفراد والمؤسسات والدول.

قصة هاجر وسارة تبين أن الغيرة الطبيعية يمكن توجيهها استراتيجيًا لتحقيق التوازن الأسري والاجتماعي، وأن الحكمة في توزيع الأدوار تساهم في إنجاح الرسالة وتحقيق أهداف أكبر.

تجربة قابيل وهابيل وتجربة مهاتير للبالونات تؤكدان أن التنافس السلبي يهدد الجميع، بينما التعاون والتركيز على الهدف المشترك يحقق النجاح الجماعي.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى