البعد التربوي الملهم في حياة الوالدة والإرث التربوي في صناعة مستقبل أبنائها
بقلم :د.محمد صلاح على الفكى

البعد التربوي الملهم في حياة الوالدة والإرث التربوي في صناعة مستقبل أبنائها
إن التربية ليست مجرد وصايا عابرة أو توجيهات يومية ترددها الأم في مسامع أبنائها، بل هي مشروع حياة كامل، ومنظومة قيم راسخة، وأسلوب عملي يترجم المبادئ إلى أفعال تُغرس في النفوس منذ الطفولة وحتى بلوغ أشدّها. التربية ليست كلمات تُقال في لحظة غضب أو فرح، بل هي بناء طويل الأمد يقوم على الصبر والرحمة والحكمة، ويستند إلى القدوة العملية التي تجعل من البيت مدرسة متجددة، ومن الأم معلمة صامتة تدرّس بأفعالها أكثر مما تدرّس بأقوالها.
لقد جسّدت والدتي، آمنة يوسف عمر إبراهيم، هذا البعد التربوي الملهم في حياتها، فكانت حافظة لروح التربية الأصيلة التي لا تكتفي بالاهتمام بالمأكل والملبس، بل تتعداها إلى صناعة إنسان متوازن، يحمل قيماً سامية، ويعرف كيف يترجمها في ميادين العلم والعمل. لم يكن اهتمامها بنا في حدود توفير أساسيات الحياة، بل كانت تسعى بوعي وبصيرة أن تفتح أمامنا أبواب المستقبل، وتضعنا في مسار الجامعات الحكومية المرموقة: في كليات الطب والهندسة، والشريعة والقانون، والزراعة، وحتى كلية الشرطة.
هذا النجاح لم يكن وليد صدفة، بل ثمرة لتربية متأنية، وصبر طويل، وإيمان عميق بأن الأبناء هم امتداد حقيقي للوالدين في الدنيا والآخرة.
لم يكن نجاحها في التربية ممكنًا بدون انسجامها الكامل مع الوالد القدوة، الذي يمثل السلطة العليا في البيت ومسؤولية عليا عن ضبط النظام والرقابة على القيم. فالوالد – رحمه الله – كان نموذجًا حيًا للانضباط والتربية الصارمة، يجمع بين الحزم والرحمة، ويحرص على متابعة سلوك الأبناء، مع تعزيز الالتزام بالقيم الدينية والاجتماعية.
هذا التناغم بين الوالدة والوالد أوجد بيئة أسرية متوازنة، حيث تكاملت الجوانب العملية للأم مع السلطة التربوية للوالد، مما أسهم في ترسيخ قواعد ثابتة للنظام والانضباط والنجاح.
كانت الأم تدير البيت وتوزع المهام وتحرص على النظام والنظافة والتعاون بين الأبناء، مؤكدة أن الخدمة لا يجب أن تُلقى على عاتق شخص واحد. وكانت تردد دائمًا عبارتها الخالدة: “المَاعُون اللين غسيلو هين”، في إشارة إلى أن التعاون العاجل يخفف المشقة ويُجنّب تراكم الأعباء.
وكانت تركز على الإسراع في تنظيف الأواني بعد الوجبات، وتعتبر أن تراكم العمل والفوضى يضعف الانضباط ويؤثر سلبًا على النظام العام للبيت. وعندما ترى مظاهر الفوضى، تقول عبارتها الشهيرة: “غاب أبو شنب ولعب أبو دنّب”، مما يعكس رفضها لأي فوضى وإصرارها على الالتزام بالنظام اليومي.
ومن أهم ما غرسته فينا والدتي، والذي اعتبرته ركيزة أساسية للنجاح، هو صلاة الصبح في وقتها. كانت تركز على البكور والإشراق، وتكره السهر لأنه يضيّع بركة النهار، وتقول لنا دائمًا: “يا أولاد، انتو بتقولوا في شنو؟ ناموا بدري عشان تقوموا بدري، ما تفوتكم صلاة الصبح في المسجد”.
هذا الانضباط اليومي ساهم في بناء شخصياتنا على التنظيم واحترام الوقت، مما انعكس لاحقًا على نجاحنا الأكاديمي والمهني.
كانت الوالدة توازن بين التشجيع والحزم: عندما كنت أنشغل بكرة القدم، كانت تطلب مني الالتزام بمواعيد المذاكرة، وتجهز لي المكان وتقول: “انت قدوة، إذا ما نجحت، إخوانك ديل ما ينجحوا في الدراسة”.
كما كانت تربط بين نجاحنا الأكاديمي والمهني، ونجاحات أسرة وأقاربنا الذين يمثلون النماذج العليا، مثل د. علي منصور الجزولي، استشاري النساء والتوليد، والبروفيسور ميرغني سنهوري، الجراح.
بالإضافة إلى دورها التربوي، كانت الوالدة شريكًا عمليًا في بناء الأسرة، فقد ساعدت في تمويل وإنهاء بناء المنزل، وضمنت أن تكون البيئة المنزلية مرتبة ومنظمة، وأن يشعر كل فرد بالمسؤولية تجاه نفسه وتجاه الآخرين.
هذه التربية الصارمة الممزوجة بالرحمة لم تبقَ مجرد شعارات، بل أثمرت نتائج عملية ملموسة: نجاح الأبناء في الجامعات الحكومية المرموقة في مجالات تشكل العمود الفقري لأي دولة: الطب، الهندسة، الشريعة والقانون، الزراعة، وكلية الشرطة.
وبالإضافة إلى النجاح الأكاديمي، غرست الوالدة فينا قيم النظام، النظافة، المسؤولية، البكور، الالتزام، التعاون، والصبر، التي ستظل رصيدًا قيمًا طوال حياتنا.
إن البعد التربوي الملهم في حياة والدتي، بفضل انسجامها مع الوالد القدوة، يمثل نموذجًا حيًا للتربية العملية المتكاملة، ويستخلص منه مجموعة توصيات
1. التناغم بين الوالدين ضرورة لتربية متوازنة: تكامل الأدوار بين الأم والأب يعزز نجاح الأبناء.
2. الوالد القدوة يمثل السلطة العليا: دوره في الرقابة والتوجيه يعزز تطبيق القيم والنظام.
3. الاعتناء بالتفاصيل اليومية: مثل الماعون، النظافة، الإسراع في الأعمال، توزيع المهام، والوقت، يرسخ قيم المسؤولية.
4. الاستثمار في التعليم هو أعظم استثمار: النجاح الأكاديمي والمهني يعتمد على الانضباط المبكر.
5. القدوة العملية أكثر تأثيرًا من الكلمات: الأطفال يتعلمون أكثر من أفعال الأهل ونماذج المجتمع الناجحة.
6. البيت مدرسة أولية للمجتمع: نظام البيت المتناغم يعكس ثقافة كاملة، وتربية الأجيال تنعكس على المجتمع بأسره.
7. التربية عملية متكاملة تشمل كل تفاصيل الحياة اليومية: الطعام، النظافة، الصلاة، اللعب، الرياضة، المذاكرة، النظام، التعاون، والقدوة.
وبذلك يصبح البعد التربوي الملهم في حياة والدتي إرثًا حقيقيًا، يضمن بناء أجيال ناجحة، متوازنة، وقادرة على تحقيق أعلى درجات العلم والنجاح، مع الحفاظ على القيم والمبادئ الأصيلة للأسرة والمجتمع.