إدارة المؤسسات بين الولاء والتأهيل: رؤية في إعداد المدير المتدرج وظيفياً
بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

إدارة المؤسسات بين الولاء والتأهيل: رؤية في إعداد المدير المتدرج وظيفياً
إنّ التجربة العملية أثبتت أن المدير الذي تدرج وظيفياً داخل المؤسسة هو الأقدر على قيادتها والأكثر انسجاماً مع أهدافها، وذلك لأسباب جوهرية؛ في مقدمتها صدق الولاء والانتماء، ومعرفته العميقة بثقافة المؤسسة وهويتها، إضافةً إلى مشاركته المباشرة في صياغة رؤيتها ورسالتها وقيمها وأهدافها. غير أنّ هذا التميز لا يُعطي حصانة مطلقة من التحديات، فقد يقع بعض المديرين في مأزق “جلباب الوظيفة السابقة”، أي الاستمرار في التفكير بأسلوب إدارتهم السابقة دون الانتقال إلى أفق أوسع يوازي متطلبات القيادة الاستراتيجية.
ولمواجهة هذا الخطر، تصبح الحاجة ملحّة لوضع سياسة مؤسسية واضحة للتأهيل والتطوير المستمر للمديرين بمختلف مستوياتهم. إذ لا يكفي الاعتماد على الخبرة المتراكمة وحدها، بل يجب أن تكون هناك برامج تأهيلية ممنهجة تتناسب مع طبيعة كل مؤسسة وحجم أنشطتها. ويُقترح أن يمتد البرنامج إلى ما لا يقل عن 24 شهراً، يُصمَّم بشكل متدرج ومدروس، بحيث يُلحق المدير المرشح للعمل لفترات متتابعة في الإدارات المختلفة، ويمارس مسؤولياتها بصورة كاملة، ثم يخضع لتقويم موضوعي وتصحيح ممنهج.
من المهم أن تدرك المؤسسات أن الترقي الوظيفي لا ينبغي أن يكون مجرد انتقال آلي قائم على الأقدمية أو العلاقات الشخصية، بل يجب أن يكون انتقالاً مؤسسياً مقترناً بمتطلبات تأهيلية محددة. فكل درجة من الترقي ينبغي أن تُبنى على مستوى جديد من التدريب والتأهيل، بحيث لا ينتقل الموظف من درجة إلى أخرى إلا بعد اجتياز برامج تدريبية وتطويرية مناسبة لتلك الدرجة.
فالموظف الذي ينتقل إلى درجة إشرافية مثلاً يجب أن يخضع لتأهيل في مهارات الإشراف وإدارة الفرق، بينما المدير المتوسط يحتاج إلى تدريب أوسع في مجالات التخطيط والإدارة المالية والقانونية. أما المدير التنفيذي فيجب أن يمر بمستويات متقدمة من التأهيل تشمل القيادة الاستراتيجية، وصناعة القرار، وإدارة الأزمات، وفنون التفاوض، وفهم السياق الاقتصادي والاجتماعي.
التأهيل أثناء الخدمة والتطوير الأكاديمي
التأهيل أثناء الخدمة يمثل الركيزة العملية لتثبيت المهارات اليومية، لكنه يجب أن يتكامل مع التطوير الأكاديمي، من خلال توفير فرص للدراسة العليا أو البرامج التخصصية، بما يوسع المدارك النظرية ويمكّن المدير من الربط بين المعرفة العلمية والواقع العملي. وهنا تبرز قيمة الدمج بين:
– التدريب أثناء الخدمة لترسيخ المهارات العملية.
– التطوير الأكاديمي لإثراء الفكر وتوسيع الرؤية.
– التثقيف القانوني والاقتصادي لفهم البيئة المؤسسية ومتطلباتها.
– التدريب المستمر والتطوير المهني
لا يمكن للمدير أن يظل على ذات الكفاءة ما لم يخضع لبرامج تدريبية مستمرة تتماشى مع التغيرات المتسارعة. وتشمل هذه البرامج:
– القيادة الاستراتيجية وصناعة القرار.
– الإدارة المالية والرقمية.
– التشريعات والقوانين المنظمة للعمل المؤسسي.
– مهارات التواصل وإدارة التغيير وحل النزاعات.
التوصيات
1. للمؤسسات:
– جعل الترقي مرتبطًا ببرامج تدريب وتأهيل إلزامية حسب الدرجة الوظيفية.
– اعتماد برامج إعداد مدراء متدرجين تمتد لفترات مناسبة وتجمع بين التدريب العملي والأكاديمي.
– توفير فرص للدراسات العليا والبحث التطبيقي للقيادات.
– إنشاء وحدات دائمة للتدريب والتطوير المؤسسي.
– وضع آلية تقييم دورية وشفافة تربط الأداء بالكفاءة لا بالأقدمية.
2. للمديرين:
– تبني ثقافة التعلم المستمر والانفتاح على المستجدات العالمية.
– الموازنة بين مسؤوليات العمل والبرامج الأكاديمية والتأهيلية.
– تجاوز التفكير المحدود بالوظائف السابقة، والانفتاح على أفق القيادة الاستراتيجية.
إنّ بناء المدير القائد ليس مهمة عابرة بل هو استثمار طويل المدى في رأس المال البشري. والمؤسسات التي تجعل الترقي مقترناً بالتأهيل والتدريب، وتدمج بين الولاء والكفاءة، تضمن استدامة القيادة وتماسك الرؤية، وتصبح أكثر قدرة على مواجهة التحديات وصناعة مستقبل مؤسسي متين قادر على خدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.