
رؤية لإطلاق رأس المال المعرفي
إن رأس المال المعرفي لم يعد مجرد رصيد فكري أو تراكم أكاديمي، بل أصبح أصلًا استراتيجيًا يوازي في أهميته رأس المال المادي، بل ويتجاوزه في قدرته على إعادة تشكيل بنية الاقتصاد والمجتمع. إن الدول التي نجحت في القفز إلى مراتب متقدمة في التنمية لم تكن تملك بالضرورة موارد طبيعية هائلة، لكنها امتلكت القدرة على تحويل المعرفة إلى إنتاج، والعلم إلى سياسات عملية، والتعليم إلى أداة تحرير وتمكين.
في السودان، ما زال رأس المال المعرفي محاصرًا بين أسوار البيروقراطية، وتشتت المؤسسات، وضعف القنوات التي تربط البحث العلمي بالسياسات العامة والقطاع الخاص. وبينما تستهلك الميزانيات في أبواب الصرف الجاري والأمن، تتضاءل فرص الاستثمار في العقول والمهارات والابتكار. وهذه هي الفجوة الحقيقية التي تحول دون انطلاقة التنمية، إذ لا يمكن الحديث عن اقتصاد منتج في ظل غياب المعرفة الفاعلة.
إطلاق رأس المال المعرفي يتطلب إرادة سياسية واضحة تعيد هيكلة أولويات الإنفاق، بحيث تنتقل من منطق “الاستهلاك” إلى منطق “الاستثمار”. الاستثمار هنا لا يعني المال فقط، بل يعني خلق بيئة تمكينية تدعم البحث العلمي، وتربط الجامعات بمراكز القرار، وتفتح المجال أمام المبادرات الشبابية والابتكارية لتتحول إلى مشاريع ذات أثر اقتصادي واجتماعي.
ولعل جوهر الأزمة يكمن في أن المعرفة ما زالت تُعامل كمسار ثانوي، بينما هي في الحقيقة المحرك الأساسي لأي تحول اقتصادي أو تكنولوجي. فالاقتصاد المعاصر قائم على الذكاء الصناعي، البيانات الضخمة، التعليم المستمر، والتكنولوجيا الرقمية، وكلها عناصر جوهرها معرفة تراكمية تُدار بعقل مؤسسي.
إن الرؤية الاستراتيجية لإطلاق رأس المال المعرفي تستند إلى عدة مرتكزات:
1. إعادة تعريف التعليم والتدريب ليصبحا عملية تكاملية متواصلة (Integrated Learning Process) تستجيب لحاجات السوق والتنمية.
2. بناء منظومة وطنية للبحث والابتكار، تُدار وفق حوكمة مؤسسية، وتُربط بمشروعات اقتصادية واجتماعية محددة.
3. إشراك القطاع الخاص في تمويل وتوظيف المخرجات المعرفية ضمن عقود واضحة تضمن العدالة والشفافية.
4. توظيف التكنولوجيا والتحول الرقمي كأداة لتسريع دورة المعرفة من الفكرة إلى السوق.
5. إصلاح التشريعات والسياسات لتشجع الإبداع وتحمي حقوق الملكية الفكرية وتفتح المجال أمام المبادرات الشبابية.
إن إطلاق رأس المال المعرفي ضرورة وجودية لسودان ما بعد الحرب، حيث التحدي الأكبر هو بناء دولة قادرة على استثمار عقول أبنائها بدلًا من استنزاف مواردها. إننا بحاجة إلى منصة وطنية تفاعلية، تتكامل فيها الجهود البحثية والتعليمية مع التخطيط الاستراتيجي، ليصبح رأس المال المعرفي جزءًا أصيلًا من معادلة القوة الوطنية، ومفتاحًا للانتقال من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن التبعية إلى الاستقلال.