مقالات

وميض الجمعة

بقلم : د. عبدالعظيم ميرغني

وميض الجمعة

• يقول مثل أفريقي قديم: إن ظننتَ نفسك أصغر من أن تحدث أثراً، فجَرِّب النوم في حضرة بعوضة.

• وكان سقراط يعرِّف نفسه وطبيعة دوره في الحياة الأثينية القديمة بقوله: أنا الذبابة التي تلسع البقر ليكف عن الخوار.

• وضرب الأمثال بالبعوض والذباب إنما جاء – على صغرها – لتقريب المعاني إلى مفاهيم الناس، كما في الإشارة الكريمة إلى البعوضة والذباب في القرآن الكريم مثلاً.

• وقد التقط فلاسفة العصور الوسطى المسيحيين هذه الإشارة، فرأى الفيلسوف الراهب روجر بيكون (1219-1292) أن لا أحد من علماء الطبيعة يوسعه الإحاطة بحقيقة ذبابة واحدة وخواصها، فضلاً عن إدراك كنه ذات الله.

• وقد التقى معه في ذلك لاحقاً، الفيلسوف فرانسيس بيكون (1561–1626م)، القائل: إذا كان القليل من الفلسفة يُبعد عن الله، فإن الكثير منها يردّ إليه.

• ورأى فرانسيس بيكون أن العقل قادر، بالتأمل في أبسط المخلوقات كالذباب، على الاهتداء إلى وجود الخالق.

• وقد بنى بيكون فلسفته على التجربة الدقيقة والاستقراء من الجزئيات إلى الكليات.

• وهذه الرؤية إلتقى فيها مع ابن رشد (1126-1198) الذي جعل من دراسة الجزئيات – ومنها خلق الذباب – طريقاً لمعرفة الله.

• وفي العصر الحديث، عرض بيتر لورنس في كتابه صنع ذبابة The Making of a Fly الخصائص الفريدة لتلك الذبابة الصغيرة حمراء العينين عاشقة العسل، ذبابة الفاكهة، كنموذج مثالي وأداة أساسية في تأسيس علم الوراثة الحديث.

• هذه الذبابة الصغيرة (3 ملم) بعمرها القصير (أسبوعين)، أنجبت أعداداً هائلة من الذرية (25 جيلاً في السنة، 100 ذرية في كل جيل)، مما وفر للعلماء مختبراً مثالياً يراقبون فيه قوانين الوراثة.

• وما جعل لهذه الذبابة مميزة كبرى أن جيناتها ظهرت تحت المجهر بخطوط واضحة، كأنها كتاب مفتوح سهَّل قراءته.

• ومن هنا بدأ فصل جديد في العلم؛ فمنذ بدايات القرن العشرين، تحولت الذبابة إلى حجر الزاوية في علم الوراثة، إذ وضع العلماء بفضلها أولى القوانين لعلم الوراثة الحديث.

• ثم تمكنوا خلال عقدين فقط من رسم خرائط دقيقة لجيناتها، في إنجاز لم يتحقق مع أي كائن آخر آنذاك.

• ومع مرور الوقت، شملت الدراسات نموها وبنيتها ووظائفها وسلوكها وهندسة طيرانها، حتى غدت أكثر الكائنات دراسة في العلم.

• يقول غولدشتين في مؤلفه “الوراثة علم سهل” إن ما كُشف بدراسة ذبابة الفاكهة يفوق ما أُنجز بكل المصادر الأخرى مجتمعة.

• وقد أُجريت على الذبابة محاولات لا تُحصى لإحداث طفرات اصطناعية لإثبات أن التطور يلد أنواعاً من أخرى.

• لكن الذبابة رغم آلاف التجارب لم تستجب لمحاولة واحدة أن تخلقها خلقاً آخر.

• وهكذا، بعد كل تلك المحاولات، ظلت تصدح بآية الله: ﴿لَن يَخلُقوا ذُباباً ولوِ اجتَمَعوا له﴾

جمعة مباركة

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى