مقالات

الزراعة التعاقدية: شراكة ذكية لإحياء مشروع الجزيرة وبناء المستقبل

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

الزراعة التعاقدية: شراكة ذكية لإحياء مشروع الجزيرة وبناء المستقبل

إن الزراعة التعاقدية ليست مجرد عقد بين مزارع وشركة، بل هي رؤية استراتيجية متكاملة تعيد الثقة بين الإنسان والأرض، وتحوّل الإنتاج الزراعي من مخاطرة فردية إلى شراكة ذكية قائمة على الالتزام المتبادل. فهي الجسر الذي يربط بين الجهد الريفي والأسواق العالمية، وبين المزارع البسيط ومؤسسات التمويل والتصنيع، وبين الطموح الوطني في استعادة مكانة السودان الزراعية وبين التجارب الناجحة في دول استطاعت أن تجعل من هذا النهج وسيلة للتحول الاقتصادي والاجتماعي.

الزراعة التعاقدية هي اتفاق منظم يلتزم فيه المزارع بزراعة محصول محدد وفق مواصفات وجودة متفق عليها، بينما تلتزم الشركة أو المؤسسة المتعاقدة بتوفير مدخلات الإنتاج أو التمويل أو التدريب أو التسويق بسعر محدد. وهذا العقد ليس مجرد وثيقة قانونية، بل منظومة شاملة تضمن الاستقرار المالي للمزارع، وتحميه من تقلبات السوق، وتدعم إدارة رشيدة لسلاسل القيمة، وتوفر بيئة آمنة للتحكيم عند النزاعات. ومن هذا المنطلق، تتحول الزراعة إلى مشروع وطني متكامل، يعزز الأمن الغذائي ويخلق فرص العمل ويطور رأس المال البشري في الريف.

التجربة السودانية في مشروع الجزيرة

على أرض مشروع الجزيرة بدأت ملامح الزراعة التعاقدية في التبلور عبر شركات وطنية متنوعة عملت في أقسام مختلفة:

شركة مأمون البرير: عملت في قسم المناقل، ورفعت إنتاجية القطن طويل التيلة إلى مستويات مضاعفة، عبر توفير التمويل والتقاوي المحسنة وضمان التسويق.

شركة دال الغذائية: دخلت في قسم المسلمية شراكات مع جمعيات تعاونية لزراعة القمح والخضروات، وربطت الإنتاج مباشرة بالصناعات الغذائية.

شركة كنانة: تعاقدت مع مزارعين في أطراف الجزيرة لتوريد الذرة كمدخل صناعي للأعلاف، محققة استقرار الأسعار وعوائد مضمونة.

شركات أصغر مثل “الواحة” و”الرواد”: نجحت في تصدير السمسم والفول السوداني من أقسام الحوش ومدني الصغير، موفرة للمزارعين تجربة التصدير المباشر لأول مرة.

تشير التقديرات إلى أن المساحات المغطاة بالزراعة التعاقدية تجاوزت خمسين ألف فدان في بعض المواسم، لتشكل نواة قابلة للتوسع مع دعم بيئة مؤسسية وتشريعية مناسبة.

التجارب الدولية الملهمة

كينيا: نجحت الزراعة التعاقدية في دمج صغار المزارعين في اقتصاديات كبيرة، خاصة في إنتاج الشاي، حيث استفاد عشرات الآلاف من التدريب ومدخلات الإنتاج وضمان التسويق عبر بورصة نيروبي، ما أتاح دخلاً ثابتًا لملايين الأسر الريفية، وجعل كينيا من أكبر مصدري الشاي عالميًا.

البرازيل: حولت الزراعة التعاقدية إلى رافعة وطنية في الصويا وقصب السكر، حيث قدمت الشركات التمويل والتكنولوجيا والإرشاد الفني، بينما ضمّن المزارعون التوريد المنتظم للمصانع، فاستطاعت البرازيل أن تصبح قوة زراعية عالمية، مع التزام بمعايير الاستدامة البيئية.

مصر: أنشأت وزارة الزراعة قطاعًا خاصًا بالزراعة التعاقدية مع مكاتب متخصصة في المحافظات، تقوم بتسجيل العقود، اعتماد الأسعار المرجعية، مراقبة الالتزامات، التحكيم عند النزاعات، وإنشاء قواعد بيانات وطنية تربط الإنتاج بالتصنيع والتسويق، مما حافظ على مصالح المزارعين وجذب الاستثمار في الصناعات الغذائية.

الفائدة الوطنية والاجتماعية

ما تحقق في مشروع الجزيرة يمثل خطوة أولى نحو التحول الكبير. فإذا تأسست مكاتب زراعة تعاقدية على غرار التجربة المصرية، مع الاستفادة من دروس كينيا والبرازيل، فإن السودان قادر على تحويل مشروع الجزيرة إلى منصة إنتاجية كبرى تربط بين الأرض والإنسان والسوق العالمي.

ويمكن لمكاتب الزراعة التعاقدية القيام بالمهام التالية:

1. تسجيل العقود رسميًا لضمان الشفافية.

2. تحديد أسعار مرجعية تحمي المزارع من تقلبات السوق.

3. متابعة تنفيذ الالتزامات (جودة الإنتاج – مواعيد التسليم).

4. حل النزاعات عبر لجان تحكيم متخصصة.

5. ربط الإنتاج بالتصنيع الزراعي لضمان القيمة المضافة.

6. إنشاء قاعدة بيانات وطنية لتسهيل التخطيط الاستراتيجي الزراعي.

الزراعة التعاقدية ليست مجرد أداة اقتصادية، بل وسيلة لإعادة إعمار الريف، إذ تمنح المزارع إحساسًا بالأمان، وتوفر فرص عمل للشباب، وتدعم المرأة الريفية عبر دمجها في سلاسل القيمة، وتخلق بيئة جاذبة للاستثمار المحلي والأجنبي.

لقد أظهرت التجارب السودانية والعالمية أن الزراعة التعاقدية إطار شامل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والقانونية، حيث تتقاطع مصالح المزارعين والشركات والدولة، وتبنى جسور الثقة بين المنتج والمستهلك. وتجارب الشاي في كينيا، وقصب السكر في البرازيل، ومكاتب الزراعة التعاقدية في مصر، ترسم الطريق الذي يمكن للسودان أن يسلكه بثقة إذا أحسن استثمار مقوماته الوطنية.

إن الزراعة التعاقدية ليست خيارًا ثانويًا، بل هي جسر عبور السودان إلى المستقبل الزراعي والصناعي معًا. ففيها يلتقي المزارع البسيط مع المستثمر الوطني، وتلتقي الأسواق المحلية مع الأسواق العالمية، وتلتقي الدولة مع مواطنيها في عقدٍ عادل يحفظ الحقوق ويصون الجهد ويضمن استدامة الإنتاج.

ومشروع الجزيرة، بما يحمله من إرث تاريخي وأرض خصبة ومياه متدفقة وخبرة متراكمة، قادر اليوم على أن يستعيد مكانته إذا ما تبنت الدولة والقطاع الخاص والمزارعون نموذج الزراعة التعاقدية كخيار استراتيجي لا رجعة فيه. إنه يمكن أن يتحول من مجرد أرض زراعية إلى منصة وطنية للأمن الغذائي، ومركز إقليمي للصادرات الزراعية، وقاطرة اجتماعية لإحياء الريف السوداني.

فلنجعل من العقد الزراعي أكثر من التزام مكتوب، ولنجعل منه ميثاق ثقة وبناء يعيد مشروع الجزيرة إلى موقعه الطبيعي، ليس فقط كخزان غذاء السودان، بل كأحد أعمدة الأمن الغذائي الإقليمي والدولي. إنها ساعة العمل الذكي المشترك، ساعة الشراكة التي تصنع الفارق بين ماضٍ معطل ومستقبل واعد، بين مشروع متعثر وقاطرة تنمية شاملة.

وبهذا المعنى، تصبح الزراعة التعاقدية رسالة السودان للعالم: أن الأرض حين تُدار بالعقل، والمزارع حين يُحاط بالأمان، والشركة حين تجد البيئة العادلة، فإن الإنتاج يتحول من مجرد محصول إلى مشروع وطني جامع، ومن مجرد تجارة إلى استراتيجية للبقاء والنهضة.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى