العقل الجمعي والشراكة الذكية: رؤية استراتيجية لإحياء مشروع الجزيرة
بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

العقل الجمعي والشراكة الذكية: رؤية استراتيجية لإحياء مشروع الجزيرة
في جزء من لقاء مطوّل مع البروفسير محمد حسين أبوصالح بمنزله بالرياض – الخرطوم، الجمعة 4 / 9 / 2020م، اجتمع فيه الطابع الرسمي بالبعد الأسري، حيث كنت برفقة زوجتي فتحية ساتي وطفلي محمد المصطفى الذي كان منشغلًا باللعب في فناء المنزل مع ابنة الأستاذ، جاءت رؤيته عميقة وناقدة لمسار مشروع الجزيرة وما آل إليه من تدهور.
قال أبوصالح إن ما جرى في المشروع لا يمكن وصفه بالخصخصة، بل هو شكل من أشكال التدمير المنظم، حيث انهارت البنية التحتية ووحدات الهندسة والاتصالات، تعطلت المصانع والمحالج، وفُقدت الخبرات نتيجة الهيكلة، في ظل تطبيق سياسات التحرير دون دراسات تفصيلية أو تدرج مدروس كما حدث في أوروبا. ومع غياب الرؤية لتأهيل السكة الحديد وصيانة نظم الري والمباني، تدهورت الرقابة على القنوات وتفاقمت مشكلة انسياب المياه، لتفشل مواسم زراعية كاملة في لحظاتها الحاسمة.
ورغم أن الاستراتيجية ربع القرنية (2007–2031م) صُممت كمبادرة طموحة لتحقيق الاستقرار والتنمية، إلا أنها لم تُنفذ في مشروع الجزيرة، بسبب اختلال علاقات الإنتاج، غياب فلسفة اقتصادية واضحة لخفض التكاليف وتحقيق ربحية عادلة، وتثاقل أعباء الضرائب والجبايات على المزارعين. أما السياسات النقدية الخاصة بأسعار التركيز فلم تنجح في حماية المنتجين من تقلبات السوق، لتتحول أرباح الوسطاء إلى ما وصفه بـ سرقة عرق المزارع.
المثال الواقعي: موسم الطماطم
أوضح أبوصالح مثال موسم الطماطم، حيث قام الوسطاء بتجميع الطماطم المعبأة في صفائح وصناديق من المزارعين وتحميلها على عربات النقل. كانت قيمة الصفيحة الواحدة من المزارع إلى الوسيط 8 جنيهات سودانية، بينما قام الوسيط ببيعها في السوق بـ44 جنيهًا سودانيًا، محققًا ربحًا 36 جنيهًا خلال ثلاث أو أربع ساعات، بينما كانت أرباح المزارع طوال فترة الموسم الزراعي ثلاثة جنيهات فقط. هذا المثال يعكس بشكل واضح حجم الظلم الاقتصادي الذي يقع على صغار المزارعين في ظل غياب هيكلة تسويقية عادلة.
العقل الجمعي والشركات الذكية
طرح أبوصالح بديلًا يقوم على العقل الجمعي والشركات الذكية، باعتبارها الآلية القادرة على تجاوز مأزق صغار المزارعين. فالمزارع في الجزيرة يملك حيازات صغيرة (في حدود 20 فدانًا) بلا مدخرات ولا قوة تفاوضية أمام الوسطاء. وهنا يبرز الحل في بناء شراكات ذكية تربط المزارع بالمصنع، بحيث يتحول الإنتاج الزراعي إلى قيمة مضافة عبر التصنيع (كالطماطم، الصلصة، الزيوت، والألبان)، مع توفير التمويل والخدمات الزراعية والحراثة والمدخلات عالية الجودة.
بهذا يصبح المصنع والمزارع في علاقة شراكة متبادلة: نجاح الأول مرهون بنجاح الثاني، والأرباح توزع بعدالة، بما يحفظ للمزارع حقه ويؤسس لصناعة وطنية منافسة عالميًا.
حدد البروفسير مهام هذه الشركات الذكية في:
– تنفيذ الاستراتيجية الزراعية الوطنية.
– إدارة التسويق والتأهيل الفني للمزارعين.
– تحديد المنتجات وفق الجدوى الاقتصادية.
– تقديم التمويل الميسر وخفض تكاليف المدخلات.
– تحديث نظم الري وتأهيل البنية التحتية.
– إدخال التقانات الوسيطة وتطوير الآلة الزراعية.
– تقديم خدمات مجتمعية (مدارس، مستشفيات، إسكان).
وأشار أبوصالح إلى أهمية أن يكون لدى هذه الشركات الذكية خطة متكاملة لتطوير كل حلقات الإنتاج الزراعي، بحيث تشمل:
– شراء مدخلات الإنتاج بكميات كبيرة لتقليل التكلفة وتحسين الجودة.
– تقديم خدمات الحراثة والحصاد بأسعار مدروسة وبتوقيت مناسب لكل موسم.
– ربط الإنتاج بالتصنيع الزراعي لضمان القيمة المضافة، مع إشراك المزارعين في الأرباح النهائية.
– توفير التدريب المستمر ليصبح المزارع قادرًا على اتخاذ القرارات الزراعية الصحيحة وفق الجدوى الاقتصادية.
أضيف لحديث أبوصالح
– إدارة المخاطر الموسمية والتقلبات في الأسعار عبر عقود الزراعة التعاقدية، بما يحمي المزارع من الخسارة ويضمن استقرار المصنع.
يمكن ان نستكمل إطار أبوصالح بتطبيق عملي للزراعة التعاقدية والمدارس الحقلية:
1. الزراعة التعاقدية: الاتفاق المسبق بين المزارع والمصنع حول نوع المحصول وكمياته وسعره وضمان التسويق، لتقليل المخاطر عن المزارع ومنح المصنع استقرارًا في التوريد وجودة الإنتاج، مع إمكانية تكييف النموذج مع واقع مشروع الجزيرة.
2. المدارس الحقلية للمزارعين (Farmer Field Schools): تدريب مباشر في الحقول على إدارة التربة والمياه، مكافحة الآفات، استخدام الأسمدة والمبيدات، وحساب الجدوى الاقتصادية، لرفع وعي المزارع وتحويله إلى شريك واعٍ قادر على اتخاذ قرارات سليمة.
بهذا التكامل بين الرؤية الفكرية (العقل الجمعي والشركات الذكية) والأدوات العملية (الزراعة التعاقدية والمدارس الحقلية)، يمكن لمشروع الجزيرة أن يتحول من رمز للتدهور إلى رافعة استراتيجية للأمن الغذائي والتنمية المستدامة في السودان، مع تعزيز الشراكات بين المزارع والمصنع لضمان استقرار الإنتاج، وتحقيق أرباح عادلة، ورفع مستوى حياة المزارعين، وبناء صناعة وطنية منافسة عالميًا.