مقالات

المشهد الغائب: حين تفقد الاستراتيجية جسور التنفيذ

بقلم  : د. محمد صلاح علي الفكي

 

المشهد الغائب: حين تفقد الاستراتيجية جسور التنفيذ

تتجلى غرائب المشهد الاستراتيجي في السودان حين يقارن المواطن بين ما نصّت عليه الوثائق وبين ما يعيشه في واقعه اليومي. فكثير ممن يتواصلون معي يؤكدون أنهم يتفقون مع ما أطرحه من رؤى، ليس لأنهم قرأوا الاستراتيجيات، بل لأنهم شاهدوا ذات المشهد مطبقًا في دول أخرى بينما غاب عنهم في وطنهم بسبب فجوة التنفيذ.

في التعليم العام – وهو أحد الأهداف السبعة عشر للتنمية المستدامة – نجد أن الدول التي التزمت بالاستراتيجية جعلت المرافق التعليمية في الأطراف أكثر جودة، وأحيانًا تضاهي أو تفوق تلك الموجودة في المدن الكبرى. أما في السودان فقد اختفى هذا المشهد، ليحل محله انتشار المدارس الخاصة حتى وصل الأمر إلى بيع المدارس الحكومية، في جريمة تمس ملكية الشعب للدولة، وتستوجب المساءلة القانونية.

وفي استراتيجية توطين العلاج، التي كان يفترض أن تجعل السودان مركزًا إقليميًا للرعاية الصحية المتقدمة بعد تجربة مصنع الشفاء، لم تُتخذ أي خطوات تنفيذية جادة. بل على العكس، نشأت وحدة العلاج بالخارج تحت مظلة ديوان الزكاة وبشراكات مع وزارة المالية والقمسيون الطبي، لتصبح موارد الدولة والزكاة موجهة إلى السفر والعلاج في الخارج بدلًا من استثمارها في إنشاء مراكز وطنية متخصصة للأمراض المزمنة. وهكذا تحوّل الهدف من التوطين إلى التصدير ، وغاب الأثر التنموي ليتحول إلى نشاط إداري يستهلك الموارد دون قيمة مضافة.

أما في استراتيجية المواصلات، فقد نصّت الوثائق على إحياء السكة الحديد واستخدام الطاقة النظيفة، لكن التنفيذ ظل حبيس الأوراق.

وفي استراتيجية رعاية المغتربين، اقتصرت العلاقة على تحصيل الضرائب بلا مقابل حقيقي. كان الأجدر أن تُبنى العلاقة على أساس عقد اجتماعي عادل، بحيث تُربط الضرائب براتب التقاعد والتأمين الاجتماعي، وتُربط الزكاة بالتأمين الطبي. بهذا التصور يصبح المغترب شريكًا حقيقيًا في التنمية، وموظفًا افتراضيًا في الخدمة العامة، يتمتع بحقوق أساسية مثلما يؤدي واجباته. إن هذه الصيغة أكثر عدالة واستدامة، وتمنح الدولة موردًا قائمًا على الثقة والتكامل بدلًا من النفور والتهرب.

وإذا نظرنا إلى التنمية المتوازنة، نجد أن الاستراتيجيات شددت على توزيع متساوٍ للخدمات والإنتاج بين الولايات، ومنع الهجرة التعليمية إلى العاصمة. لكن الواقع يشهد تكدس الجامعات والمصانع في الخرطوم، حتى بات ثلث سكان السودان في العاصمة، وأصبحت الحكومة تُعرف مجازًا بـ”حكومة الخرطوم بدلاً عن حكومة السودان ، في حين بقي الهامش عنوانًا للتهميش لا للتنمية.

ويظهر المشهد أكثر وضوحًا في استراتيجية الزراعة والثروة الحيوانية، حيث لم تستطع المنتجات الزراعية منافسة السلع العالمية في أسواق الدعم الزراعي، في الوقت الذي رفعت فيه السياسات الاقتصادية تكاليف الإنتاج المحلي عبر الضرائب والجبايات. ولم تُتخذ خطوات جادة لمنع تصدير المواد الخام وتشجيع التصنيع الزراعي، فظلت القيمة المضافة غائبة. وفي قطاع الثروة الحيوانية، استمر تصدير الإناث والماشية حيّة، دون توجه فعلي نحو تصنيع اللحوم أو صناعة الجلود. كما بقي الاستزراع السمكي – وهو بديل منخفض الكلفة وعالي الإنتاج – خارج دوائر الاهتمام. وعلى صعيد حصاد المياه، لم تُنفذ البرامج التي كان يمكن أن تمثل سندًا رئيسيًا للإنتاج الزراعي والحيواني معًا.

إن هذه المشاهد المتباينة تكشف أن المشكلة ليست في الرؤية أو التخطيط، بل في غياب الجسر التنفيذي الذي يربط بين النصوص والواقع. ومن هنا فإن الإصلاح يتطلب إدماج الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والقانونية في إطار دبلوماسي جامع، يرد الاعتبار للمواطن باعتباره محور التنمية، ويستعيد الاستراتيجية إلى مسارها كأداة لخدمة الإنسان لا مجرد وثيقة للعرض.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى