
غابات السودان : أبطال بلا ضجيج
• يقول الإنجليز: بوسعك أن تحكم على الرجل من حذائه You can judge a gentleman by his shoes.
• وقد يهمسون: انظر إلى حذائه، إنه رجل محترم He is a gentleman, look at his boot.
• أما الأمريكان فيرون أن الحذاء يصنع الرجل Shoes make the man.
• ويردد الفرنسيون: الحذاء المصنوع بعناية يقود صاحبه إلى المجد.
• فالحذاء اللامع الأنيق يُعد من علامات الوجاهة والانضباط الخفية عند الغربيين.
وكما للغربيين رموزهم الخاصة في تقدير الوجاهة والانضباط، فإن للسودانيين رموزاً أكثر شمولاً؛ فعلامات الوجاهة والأصالة والاحترام عندهم ليست جزئية، بل شاملة، مركوب وجلابية وتوب.
فالعناية بالمظهر عند السودانيين ليست ترفًا، بل رسالة صامتة عن الاحترام والانضباط.
وكما تجاوز السودانيون باللباس حدود الوظيفة، تجاوز الغربيون بـ”البوت على الأرضboots on the ground “، رمزاً للجنود المجهولين الذين يصنعون البطولات في صمت على الأرض، بعيدًا عن ضجيج الأضواء.
فالبطولة من هذا المنطلق ليست كما في القدم، مرتبطة بالأعمال الفردية الخارقة والاستثنائية؛ كما عند فرسان الأساطير، شمشون وأبو الفوارس عنترة وهرقل، فهذا لا يعكس الواقع.
البطولة أصبحت اليوم عملاً جماعيًا، متجذرًا في قيم النزاهة والأخلاق والإخلاص في أداء الواجبات بصمت.
وبهكذا مفهوم يتحول العامل العادي الذي يؤدي مهامه بصمت وإتقان، إلى بطل حقيقي.
ومن أراد مثالاً حياً فليعبر كبري المسلمية ثم ينعطف غربًا حيث يطل مبنى تعلوه لافتة كتب عليها: الهيئة القومية للغابات.
هناك رجال ونساء بسطاء – أقدامهم على الأرض boots on the ground – يصدون زحف الرمال، ينشرون الخضرة، ويحولون جهدهم الصامت إلى إنجاز تتوارثه الأجيال.
شهد لهم الخبراء الأمميون، والزوار الوطنيون والأجانب، بانضباطهم ومهنيتهم.
قال أحد قادة الشرطة: في أرض نائية، إذا رأيت آثار إطارات، فهي إما للشرطة أو للغابات. شهادة مجازية تختصر حضورهم الدائم في المكان الصحيح والزمان الصحيح.
في تلك الهيئة، تتجلى علامات البطولة في تفاصيل صغيرة: احترام صارم للوقت، حضور مبكر للحاجة فاطمة والحاجة أم شعر يرحمهما الله، رغم بعد السكن ومشقة المواصلات، يجعل أركان المبنى يشع نظافة ونظام.
من هذه العلامات الصغيرة اليومية، تتسع الدائرة لتشمل صوراً أوسع من الانضباط المؤسسي.
اجتماع تشاوري صباحي يومي منذ أن انتعلت قدماي حذاء الهيئة القومية للغابات، يستلهم روح المثل “نصف رأيك عند أخيك”. ويرسّخ قيمة التواصل الرأسي المباشر مع القيادات، في قمة الهرم أو عبر القيادات الوسيطة.
وامتدت هذه الروح الشورية إلى اجتماعات شهرية في الميدان، ومؤتمرات سنوية حافلة، واحتفالات قومية بأعياد الشجرة والحصاد.
وبموازاة هذه الجهود التنظيمية، برزت ميادين أخرى تجلّت فيها البطولة.
شهادات المحاكم للهيئة بكامل إنجازاتها، إذ لم تُسجَّل عليها هزيمة واحدة في مئات القضايا.
وبهذا يحق الفخر لرجالها: عبد الله جعفر، عبد الحميد آدم، أبوبكر الزاكي، ومعهم قيادات أخرى كثير، برئاسة الهيئة والولايات، أحسنوا ضبط الإيقاع وصون الحقوق.
وكما تتجلى البطولة في قاعات العدالة، فإنها لا تقل وضوحاً في الميدان.
قد تتجلى أحيانًا في صدق ونزاهة رجال من أمثال محمد توم، وتجرد وقناعة زعماء نقابيون من أمثال سعيد مسعود، كانوا صادقين في انتمائهم، مخلصين للغابات، فلم تُدخلهم تقلبات الساحة النقابية في صدام مع واجبهم المهني وأمانتهم تجاه الهيئة.
قد تتجلى البطولة أيضاً في إقدام أمثال سوسن عبد الله، وعمر الماحي، ويحيى آدم، ليتطوعوا دفاعًا عن الغابات، مؤدّين واجبهم بصفة رسمية إبراءً للذمة وصونًا للأمانة، رغم ما انطوى عليه ذلك من تضحية بمصالحهم ووظائفهم.
فإذا كانت المواقف الفردية قد رسمت ملامح بارزة من التضحية، فإن البطولات الجماعية لم تكن أقل إشراقًا.
ويتبدى ذلك بوضوح في تمسّك رجالٍ من قامات المرحوم الحبيب حماد ومجموعة قيادات جسدت صورة الولاء المهني الأصيل للهيئة والغابات، إذ رفعوا قيم الانتماء فوق أي اعتبار آخر، في ولايات شتى.
غير أن ذروة الفداء كانت حين ارتبطت بالتضحية بالحياة نفسها، فتجلّت البطولة في مواقف نادرة لا تُنسى:
حارس الغابة صلاح مصطفى تصدّى ببدنه النحيل للآليات وهو يهتف: “فوق جثتي”، ومفتش برام أحمد شوقار خاطر بحياته ليحمل إيرادًا يعادل مائة ضعف راتبه، فيما مضى أحمد يونس حنفي ورفاقه خالد جمعة فرج وفضل مصطفى شهداء وغيرهم، يسطرون بدمائهم ملحمة الغابات.
إذا كانت هذه الملاحم قد كتبت في ميادين الوطن، فإن للغابات صفحات أخرى على المسرح الدولي، إذ حملت رسالتها إلى العالم، ولم تكن مجرد مؤسسة محلية، بل بوابة مثّلت السودان في المحافل الكبرى.
في قاعات الخرطوم، اجتمع الشرق والغرب عام 2008 حين احتضنت الهيئة سبعين دولة في لقاء أفريقي كبير، متزامن مع هيئة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا.
يومها بدت الخرطوم كغابة صغيرة تضم كل الأشجار الأفريقية والعربية والأوروبية في ظل واحد.
وقد وصفه أبو الدبلوماسية، السفير الدكتور بشير البكري رحمه الله، بأنه نجاح أعاد للسودان مكانته كأرض سلام وملتقى عالمي.
ومثلما شهد العالم بعطاء الغابات، لم تبخل الدولة هي الأخرى في توثيق ذلك الاعتراف.، فقد جاء التكريم ليضع الخاتمة الطبيعية لمسيرة العطاء.
فكما شرفها الزعيم إسماعيل الأزهري عام 1968، والمشير جعفر نميري في اليوبيل الذهبي عام 1984، فلما جاء الاحتفال الماسي عام 2002 ليكون علامة فارقة، شرفها رئيس الجمهورية المشير عمر البشير ونوابه وكامل هيئة الوزراء.
في ذلك اليوم لم يكن الاحتفال مجرد مناسبة بروتوكولية، بل لحظة اعتراف رسمي ببطولات الغابات ورجالها، إذ وُشحت الهيئة بنجمة الإنجاز، وكرِّم رموزها الوطنيون وشركاؤها الأجانب بالأوسمة والنياشين، من بينهم سودانيون وأجانب مثل ساني الهندي، ووحيد خان الباكستاني، ولوكانين الفنلندي، وآخرون.
أما بعد هذه الرحلة المليئة بالشواهد، فقد وجدت نفسي أوجّه كلمتي لمن عايشتهم، لأوثّق بعضًا من علامات بطولات الغابات؛ بطولات صامتة صنعتها أيادٍ عادية وأقدام ثابتة على الأرض.
غير أنّ ما أوردته ليس سوى إشارات عابرة من بطولاتهم الحقيقية، التي تبقى أوسع وأغنى مما يُكتب أو يُقال.
وإذا كنت قد وقفت عند بعض الأسماء والوقائع، فإنني أعتذر سلفًا لآلاف العاملين في الغابات – أكثر من ثلاثة آلاف رجل وامرأة – الذين لا تسع هذه السطور ذكر بطولاتهم جميعًا.
غير أنني أعلم يقينًا أن كل واحد منهم ترك بصمته الخاصة في ملحمة الغابات، وأن بطولاتهم الحقيقية أكبر من أن تختزل في مقال أو شهادة.
لقد كان شرفي الأكبر أن أكتب هذه الرسالة لزملائي يوم غادرت مبنى الهيئة في عام 2014، لأقول لهم بصدق: أنتم الأبطال الحقيقيون.
هذه ليست حكاية عن مؤسسة فحسب، بل شهادة للتاريخ على رجالٍ ونساء ظلوا واقفين في الصف الأول بلا ضجيج.
كل خطوة خطوها على الأرض، كل شجرة غرسوها، كل يوم قضوه في مواجهة الصحراء، كان فصلًا جديدًا في كتاب البطولة الحقيقية. ولعل من يقرأ سيرتهم غدًا سيجد فيها ما يهديه إلى معنى الوفاء والانتماء.
فهؤلاء الأبطال، ببطولاتهم الصامتة، كتبوا باسم الغابات فصلًا خالدًا في كتاب السودان.
آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق.