الاستراتيجية القومية ربع القرنية (2007–2031م): د. كورينا من قلب التجربة
بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

الاستراتيجية القومية ربع القرنية (2007–2031م): د. كورينا من قلب التجربة
ليس من السهل أن توثّق الاستراتيجيات الوطنية من خارج مؤسساتها أو بعيدًا عن شهودها. لكن حين تجلس إلى رجل عاش التجربة من الداخل، وكان في موقع المسؤولية الأولى عن التخطيط الاستراتيجي، فإن الشهادة تتحول إلى مرجع فكري وتوثيقي.
في صباح الأحد 26 ديسمبر 2020م، كان لي لقاء مطوّل مع د. عباس محمد العوض كورينا، الأمين العام الأسبق للمجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي، وذلك بمقر الأكاديمية العليا للدراسات الأمنية والاستراتيجية – الخرطوم – سوبا – المبنى الأكاديمي. جلسة بدأت عند العاشرة والنصف صباحًا، في أجواء من الصفاء الفكري والهدوء، وأخذت طابعًا خاصًا هذه المرة؛ فقد بدا الرجل محاطًا بعدد من طلاب الدراسات العليا في التخطيط الاستراتيجي، يجيب عن أسئلتهم، ويوجههم بحكمة المعلّم وتجربة المسؤول. كان ذلك امتدادًا لصورة رأيتها فيه من قبل، حين زرته في منزله قرب القيادة العامة، حيث استقبلني بكرم الضيافة السودانية الأصيل، وكان محاطًا كذلك بطلبة العلم، كأن بيته وأكاديميته على السواء تحولت إلى منتدى مفتوح للعلم والمعرفة.
وما يلي هو جزء من الحديث الطويل الذي دار بيننا في تلك المقابلة، وفيه شهادة مباشرة عن الاستراتيجية القومية ربع القرنية (2007–2031م).
شهادة من قلب التجربة
بدأ د. كورينا حديثه باسترجاع محطة أساسية:
الاستراتيجية القومية الشاملة (1992–2002م) ركزت على القطاع الزراعي باعتباره القطاع الرائد، وصيغت بصورة محكمة وجيدة. لقد أسست هذه الاستراتيجية للإطار الفكري للتخطيط الاستراتيجي في السودان. وعلى أساسها وُضعت استراتيجية ربع القرنية (2007–2031م).
لكنه سرعان ما أشار إلى الفجوة الزمنية بين 2003 و2007م:
كان من المفترض أن يبدأ التنفيذ في عام 2003م، لكن انشغال الحكومة بقضية الجنوب وعدم قناعة إخوتنا في الجنوب بالاستراتيجية جعلها تتأخر. قالوا لنا بالحرف الواحد: هذه الاستراتيجية تخص شمال السودان ولا تهمنا. لذلك انتظرنا حتى 2007م، وهو تأخير يُعد قصورًا، لأنه مدّد من عمر الوثيقة وأجّل تنفيذها.
من التصميم إلى التعثر
وحين تناول تفاصيل استراتيجية ربع القرنية (2007–2031م)، أوضح أنها وُضعت بطريقة علمية دقيقة:
خمس خطط خمسية متتالية حتى عام 2031م.
أهداف تنفيذية واضحة قابلة للقياس.
توزيع الأعباء والمسؤوليات بين الوزارات والجهات المعنية.
تحديد الموارد ومصادر التمويل، مع إجازة الموازنات على مستوى البرامج التنفيذية.
غير أن النتيجة لم تأتِ كما كان متوقعًا. قال:
التنفيذ في الخطة الأولى والثانية (2007–2016م) لم يكن بالمستوى المطلوب. حتى النجاحات التي تحققت كانت محصورة في قطاع الخدمات والتشييد، ومع ذلك بلغت نسبة الانحراف 76%. السبب في ذلك أن الجهات المنفذة كانت تفتقد الوعي الاستراتيجي والخبرة الكافية، ولم يكن هناك قانون ملزم يجبرها على التنفيذ أو يحاسبها عند التقصير.
الدستور كحارس للاستراتيجية
في هذه النقطة، ارتفعت نبرة الرجل، كمن يستعيد معركة خاضها ولم تكتمل:
نحن اقترحنا أن تُضمَّن الاستراتيجية في الدستور الدائم للبلاد، لتصبح قانونًا ملزمًا، لكن المقترح لم يجد استجابة. شرعنا في تدريب القيادات التنفيذية على آليات التنفيذ، وبذلنا جهدًا مقدرًا، لكن عدم الاستقرار الوزاري حال دون تحقيق النتائج. كلما تبدلت القيادات الوزارية عدنا إلى المربع الأول، وأُعيدت الاستراتيجية إلى الأرفف. وهكذا ندور في دائرة مفرغة.
قراءة في الشهادة
من خلال هذه الشهادة، يتضح أن الأزمة لم تكن في الصياغة الفكرية أو المنهجية للاستراتيجية، بل في الحوكمة التنفيذية. فغياب القانون الملزم، وضعف وعي المنفذين، وعدم الاستقرار المؤسسي، جعلت الاستراتيجية القومية ربع القرنية تدور في حلقة تأجيل وتأويل، حتى تحولت من مشروع وطني طموح إلى وثيقة مؤجلة عبر الأجيال.
إن ما طرحه د. كورينا يضعنا أمام معادلة حاسمة:
الرؤية الاستراتيجية تحتاج إلى إطار قانوني ملزم يضمن الاستمرارية.
المؤسسات تحتاج إلى وعي استراتيجي وتدريب مستمر.
الاستراتيجيات تحتاج إلى استقرار سياسي ومؤسسي كي لا تُعاد صياغتها مع كل تغيير في السلطة.
لقد كانت هذه المقابلة الطويلة مع د. كورينا درسًا مزدوجًا: درسًا في الكرم والتواضع الإنساني لرجل أحاط نفسه بالطلاب والباحثين، ودرسًا في الصرامة الفكرية والتحليل الاستراتيجي لرجل عاش التجربة من الداخل. وما أوردته هنا ليس سوى جزء من حديث مطوّل، يكشف بعضًا من تجربته مع الاستراتيجية القومية ربع القرنية. ومن قلب حديثه يمكن أن نستخلص حقيقة مركزية: أن الاستراتيجية ليست مجرد وثيقة مرجعية، بل عقد وطني قانوني–مؤسسي، لا ينجح إلا إذا صار ملزمًا بحكم الدستور، ومحروسًا بوعي جماعي يربط الرؤية بالفعل.