مقالات

التعليم مدى الحياة: ركيزة للتجدد والإبداع والتنمية المستدامة

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

التعليم مدى الحياة: ركيزة للتجدد والإبداع والتنمية المستدامة

لقد أصبح التعليم في عصرنا مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بقدرة المؤسسات التعليمية على إعداد موارد بشرية متعددة القدرات، قادرة على الجمع بين العلوم والمعارف المتنوعة، وتحويل التعلم إلى قيمة إنتاجية وإبداعية. ومن هنا برز اتجاه عالمي يقوم على إلغاء التخصصات الجامدة واستبدالها أو دمجها وفقًا لاحتياجات التنمية وسوق العمل، بدلاً من الاقتصار على مسارات تقليدية قد تفقد قيمتها بمرور الزمن.

وتعد تجربة الصين مثالًا بارزًا في هذا السياق؛ فقد أقدمت وزارة التعليم العالي على خطوة استراتيجية تمثلت في إلغاء مئات التخصصات الجامعية القديمة التي لم تعد تلبي احتياجات التنمية أو السوق، واستبدالها بتخصصات جديدة تتماشى مع الثورة الصناعية الرابعة. فظهرت مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، الروبوتات، علوم البيانات، الاقتصاد الرقمي، الإدارة الصحية وغيرها. ولم يقتصر الإصلاح على الاستبدال فقط، بل شمل دمج تخصصات مختلفة لإنتاج كفاءات مركبة، مثل الجمع بين الطب والإدارة، ليصبح الخريج قادرًا على ممارسة المهنة وإدارة مؤسساتها بكفاءة استراتيجية في الوقت ذاته.

لكن هذا النهج لم يقتصر على الصين وحدها، بل أصبح اتجاهًا عالميًا. ففي سنغافورة، جرى دمج الهندسة مع علوم البيانات لتخريج مهندسين قادرين على قيادة التحول الصناعي الرقمي. وفي الولايات المتحدة برزت مبادرة STEM to STEAM التي جمعت بين العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات والفنون لخلق بيئة تعليمية تحفز الإبداع. أما في أوروبا، فقد نشأت تخصصات تجمع بين القانون والتكنولوجيا (Legal Tech) لمواجهة تحديات الرقمنة في الأنظمة العدلية. وفي اليابان، تم الربط بين الروبوتات والرعاية الصحية لتلبية احتياجات مجتمع الشيخوخة.

إن جوهر هذه التجارب جميعًا هو أن سوق العمل لم يعد يقبل بالتخصصات الجامدة، بل يبحث عن كفاءات مرنة قادرة على الجمع بين المعرفة التقنية والإبداع الفكري، بين الخبرة العملية والقدرة الإدارية، وبين العمق العلمي والاتساع المعرفي. ومن هنا يصبح التعليم مدى الحياة ضرورة استراتيجية لبناء رأس مال بشري متجدد، يمثل المحرك الأساسي للتنمية المستدامة.

تعريف التعليم مدى الحياة وأهميته

التعليم مدى الحياة هو عملية مستمرة ومنفتحة لا تتوقف عند حد معين من العمر أو المرحلة التعليمية، تهدف إلى تطوير مهارات الفرد ومعارفه وقدراته باستمرار بما يتماشى مع متغيرات الحياة وسوق العمل والتنمية. أهميته تظهر في:

رفع الإنتاجية الاقتصادية وتهيئة قوة عاملة مرنة.

مواكبة التحولات التقنية والرقمية الحديثة.

تعزيز الاستقرار الاجتماعي وخلق فرص عمل جديدة.

تحفيز الإبداع والابتكار من خلال دمج المعارف والتخصصات.

ضمان العدالة المعرفية وتوفير الفرص للجميع.

دعم التنمية المستدامة عبر الاستثمار في رأس المال البشري.

إن الاستثمار في التعليم مدى الحياة هو ركيزة للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. الموارد الطبيعية تُستنزف مع الزمن، لكن المورد البشري يتجدد فقط حين يُستثمر في العلم والمعرفة. ومن هنا، يصبح شعار المستقبل: من يتعلم باستمرار يملك زمام القيادة.

الرؤية الاستراتيجية

بناء مجتمع متعلم مدى الحياة يربط التعليم بالعمل والتنمية بشكل مستمر.

إعادة هيكلة التخصصات الجامعية لتتلاءم مع الثورة الصناعية الرابعة والتحولات الرقمية.

تعزيز التكامل بين العلوم لإعداد كفاءات قادرة على الإبداع وحل المشكلات المعقدة.

وضع سياسات وطنية تجعل من التدريب والترقي المهاري المستمر حقًا للجميع لا امتيازًا للنخب.

اعتبار الاستثمار في التعليم مدى الحياة ضمانة للاستقرار والإبداع والقدرة التنافسية العالمية.

إن التعليم مدى الحياة ليس مجرد نظام أو سياسة، بل هو رحلة إنسانية ممتدة، تتفتح فيها العقول كما تتفتح الأزهار مع كل صباح جديد. هو دعوة للإنسان أن يبقى طفلًا في فضوله، شابًا في طموحه، حكيمًا في خبرته، لا يشيخ ما دام قلبه متصلًا بالمعرفة.

حين نتعلم باستمرار، فإننا لا نضيف سنوات إلى أعمارنا فحسب، بل نضيف حياة إلى أعوامنا، ونحول كل تجربة إلى درس، وكل تحدٍ إلى فرصة، وكل فشل إلى بداية جديدة. التعليم مدى الحياة هو وعد بمستقبل لا يُقاس بما نملك من موارد، بل بما نُحسن أن نتعلم ونبدع ونشارك.

إنه الطريق الذي يجعل الأمم تتجدد، والشعوب تنهض، والإنسان يجد ذاته من جديد. ومن يسلك درب التعلم الدائم، فإنه يكتب قصته بمداد الأمل، ويترك للأجيال من بعده ميراثًا لا يفنى: ميراث الحكمة والمعرفة والقدرة على صنع غدٍ أفضل.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى