
من الخرطوم إلى السودان كله: نحو إعادة توزيع الحياة والتنمية
ليس السؤال: لماذا يعود الناس إلى الخرطوم؟
بل السؤال الأعمق: لماذا لا يجدون في مدنهم وولاياتهم ما يغنيهم عن العودة إليها؟
الرؤية الاستراتيجية
إن تكدس السكان في الخرطوم ليس صدفة، بل نتيجة تراكمات تاريخية لتمركز الخدمات والبنية التحتية والفرص الاقتصادية والإدارية في العاصمة. وقد جعل ذلك من الخرطوم قبلة للهجرة المكثفة، خاصة التعليمية، في وقت نصّت فيه الاستراتيجية ربع القرنية (2007–2031) بوضوح على منع الهجرة التعليمية، وعلى تحقيق تنمية متوازنة بين الولايات. إن غياب التنفيذ لهذه التوجهات أدى إلى خلل سكاني وعمراني، وترك مساحات واسعة من الوطن خاوية، بينما تختنق العاصمة بالازدحام.
ركائز الخطة المقترحة
1. إعادة تأهيل المدن القديمة ذات الإرث الحضري مثل مروي وكسلا وعطبرة والأبيض والفاشر ونيالا، لتستعيد دورها كمراكز إنتاجية وخدمية متكاملة.
2. استحداث مدن جديدة في الفراغات الجغرافية الغنية بالموارد مثل الفشقة، لتصبح أقطابًا جديدة للنمو وجذبًا سكانيًا.
3. خلق بيئة عمرانية متكاملة بالخدمات والإنتاج تشمل التعليم، الصحة، النقل، الإسكان، والأنشطة الاقتصادية.
4. توزيع عادل للسكان بما يوازن بين الاقتصاد والأمن القومي، فالأرض الخالية ضعف، بينما التوزيع المتوازن قوة.
5. تفكيك التمركز التاريخي للخدمات والبنية التحتية في الخرطوم لصالح تنمية متوازنة في الولايات.
الإجراءات العملية
نقل الجامعات الحكومية والخاصة إلى الولايات، مع الإبقاء على ثلاث جامعات حكومية رئيسية موزعة على مدن الخرطوم الثلاث كمراكز امتياز بحثي.
نقل المصانع إلى مدن صناعية متخصصة بجوار مناطق الإنتاج والمواد الخام، لتقليل تكاليف النقل وزيادة القيمة المضافة.
نقل الوزارات الاتحادية من قلب الخرطوم إلى موقع جديد خارج الكثافة السكانية، بإنشاء مجمع وزاري متكامل حديث، يضم مؤسسات الدولة وحوله مجمعات سكنية وخدمية للموظفين وأسرهم.
نقل مطار الخرطوم خارج الكثافة السكانية وتحويل موقعه الحالي إلى مساحات خضراء تطرح بعد الحرب وإعادة التخطيط العمراني كجزء من التحول الاستراتيجي للعاصمة. الفكرة ليست جديدة عالميًا، إذ أن كثيرًا من المدن أعادت استخدام مطاراتها القديمة (مثل برلين تمبلهوف في ألمانيا الذي أصبح حديقة عامة ضخمة).
البديل الأمثل:
حديقة قومية خضراء (National Green Park): تكون أكبر متنفس طبيعي في العاصمة، تحيط بها مرافق عامة وثقافية ورياضية.
الأبعاد الاستراتيجية:
تحقيق توازن عمراني وتقليل التلوث.
توفير فرص عمل من خلال مشروعات البنية التحتية والسياحة البيئية.
إضافة عنصر جمالي ورمزي للعاصمة الجديدة بعد الحرب، ليكون علامة أمل وتجديد.
التحديات:
منع التعدي العشوائي على الأرض (كما حدث في مشاريع سابقة).
وضع تشريع صارم يجعل الأرض مخصصة للمنفعة العامة لا للبيع التجاري البحت
ربط المشروع بالاستراتيجية القومية (مثل ربع القرنية) وخطط التنمية المستدامة.
بمعنى آخر: تحويل مطار الخرطوم إلى مساحات خضراء قد يكون مشروع القرن للمدينة، يغيّر وجهها من عاصمة خانقة إلى مدينة خضراء مفتوحة، إذا وُضع في إطار استراتيجي وتنفيذي صارم.
تنظيم الوجود الأجنبي في الخرطوم بما يحفظ السيادة ويحقق الاستخدام الأمثل للموارد.
الأبعاد المتكاملة
– إعادة توزيع السكان بما يحفظ الأمن القومي.
– رفع القيمة المضافة وتوسيع قاعدة الإنتاج.
– ضمان خدمات عادلة وفرص حياة كريمة في كل الولايات.
– ترسيخ إدارة حديثة متوازنة بين المركز والأطراف.
– تعزيز صورة السودان كدولة قادرة على حماية موارده وحدوده.
– تطبيق مبدأ العدالة في التنمية كما نصت عليه المرجعيات الوطنية.
إن السودان لن ينهض إذا بقيت الخرطوم مركز كل شيء. التنمية الحقيقية هي التي تجعل كل مدينة وولاية مركزًا للحياة والكرامة والإنتاج، وفق ما نصّت عليه الاستراتيجية الوطنية ذات الأفق الطويل.
إن إعادة توزيع السكان والخدمات ليست مجرد قضية عمرانية، بل مشروع استراتيجي شامل يحفظ الوطن من الاختناق في العاصمة ومن الفراغ في الأطراف، ليصبح السودان كله بيتًا حيًا نابضًا بالحياة.