مقالات

السلوك الحضاري من القيم الإسلامية والأمم المتحضرة: قاعدة التنمية المستدامة

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

السلوك الحضاري من القيم الإسلامية والأمم المتحضرة: قاعدة التنمية المستدامة

إن التحضر الحقيقي يسبق التطور العمراني، فهو يبدأ من داخل الإنسان قبل أن يظهر في المباني والشوارع. والشارع العام ليس إلا مرآة تعكس مستوى الانضباط السلوكي لأفراده؛ فإذا التزموا القيم والقوانين، اتسق المشهد العام بالنظام والهدوء، وإذا غاب الالتزام، عمّت الفوضى وفقدت البيئة الحضرية رونقها.

الانضباط السلوكي ليس مجرد سلوك فردي، بل هو منظومة قيمية وأخلاقية وقانونية تتكامل فيها المرجعية الإسلامية التي تؤكد على “إماطة الأذى عن الطريق” و”الرفق بالناس”، مع تجارب الأمم المتحضرة التي جعلت النظام العام أحد مقاييس جودة الحياة. وهو التزام يشمل احترام المواعيد، آداب التعامل، قواعد المرور، صون الملكية العامة، والحفاظ على النظافة.

حين يلتزم السائق والمشاة بقوانين السير، تتقلص الحوادث ويخف الازدحام، وحين يمتنع الأفراد عن رمي القمامة، يتحسن المظهر العام وتقل المخاطر الصحية، وحين يحترمون الممتلكات العامة ويتعاملون برقي، تنخفض حدة التوتر الاجتماعي. بذلك تتجسد العلاقة التكاملية بين الفرد والمجتمع: الفرد المنضبط يصنع شارعًا منضبطًا، والفرد الفوضوي يشيع الفوضى.

إن ترسيخ هذا الانضباط يستلزم تربية مبكرة في الأسرة والمدرسة، وقدوة حسنة من القادة، وقوانين واضحة تطبق بعدالة، وحملات توعية تربط بين السلوك الفردي والمصلحة الوطنية. وبهذا يصبح الانضباط السلوكي ركيزة لتحقيق الاستراتيجية ربع القرنية 2007–2031م وأهداف التنمية المستدامة الـ17، خاصة ما يتعلق بالمدن والمجتمعات المستدامة، والصحة الجيدة، والتعليم الجيد، والحد من عدم المساواة.

من هنا، فإن السلوك الحضاري أساسًا للبنية التحتية المعنوية التي يقوم عليها كل مشروع حضاري. فالتحضر يبدأ بالنظام (System) قبل الطوب والحجر، وهو القاعدة التي يبنى عليها أي تقدم عمراني أو اقتصادي أو اجتماعي، وبغيابه تسقط أي محاولة للتنمية في فخ العشوائية والهدر.

وتؤكد التجارب الدولية أن الانضباط السلوكي هو الشرط الخفي لنجاح التنمية الحضرية. ففي سنغافورة، امتزجت الصرامة في تطبيق القوانين مع حملات التوعية المستمرة، فتحولت من موانئ متواضعة إلى واحدة من أنظف وأكثر المدن انضباطًا في العالم. وفي اليابان، أصبح الانضباط ثقافة وطنية تُغرس منذ الطفولة عبر التربية العملية، حيث ينظف الطلاب فصولهم بأنفسهم ويُربَّون على احترام المساحات العامة، فانعكس ذلك على جودة الحياة والاقتصاد.

أما في النموذج السوداني المستهدف، فإن دمج هذه القيم والتجارب مع الخصوصية المحلية والمرجعيات الإسلامية، وربطها بالاستراتيجية ربع القرنية، يمكن أن يطلق تحولًا حضاريًا حقيقيًا. فالتحضر يبدأ من سلوك الإنسان قبل أن يُرى في شوارع المدن، والانضباط السلوكي هو البنية التحتية الحقيقية لأي نهضة. حين يتبنى الفرد قيم النظام والنظافة واحترام القانون، تتحول المدن إلى فضاءات مزدهرة، ويصبح الشارع مرآة لعقل الأمة وروحها. فبقدر ما ننضبط، بقدر ما نصنع مستقبلًا يليق بنا.

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى