
استراحة الجمعة: بين دهشة باسكال ويقين ابن عساكر
• منذ أقدم العصور، حاول الفلاسفة والمفكرون والمتكلمون أن يرسموا ملامح الحقيقة، فتقاطع عندنا صوتان من قرنين مختلفين:
• أحدهما من باريس القرن السابع عشر، والآخر من دمشق القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي؛ كلاهما يحاول أن يصف حدود العقل الإنساني أمام المطلق.
• في القرن السابع عشر الميلادي كتب للفيلسوف والفيزيائي الفرنسي باسكال عبارات، قيل في وصفها أنه لا يوجد في اللغة الفرنسية كلها صفحات أروع منها في وصف الصورة التي تعبر عنها.
• تقول العبارات: (… كل هذا العالم المرئي ليس إلا عنصراً لا يدرك في صدر الطبيعة العظيم. إنها كرة لانهائية، مركزها في كل مكان ومحيطها في غير مكان. وهو أكثر مظهر يمكن إدراكه من مظاهر قدرة الله، حتى أن خيالنا يتوه في هذا الخاطر. ويخيفني الصمت الأبدي الذي يلف هذا الفضاء اللانهائي. ولكن هناك لانهائية أخرى، وتلك هي لانهائية صغر الذرة التي لا تقبل الانشطار، وقبولها النظري للانقسام قبولاً لا حد له، فمهما كانت ضآلة الحد الأدنى الذي نختزل به أي شيء، فإننا لا نملك إلا الاعتقاد بأنه هو أيضاً له أجزاء أصغر منه. وعقلنا يتذبذب في حيرة وارتياع بين الشاسع غير المحدود، والدقيق غير المحدود. إن من يتأمل نفسه على هذا النحو تخيفه نفسه، وإذا أدرك أنه معلق بين هاويتين اللانهائية والعدم، ارتعد فرقاً. فما الإنسان في الطبيعة، بعد كل شيء؟ إنه العدم إذا قيس بغير المحدود، وهو كل شيء إذا قيس بالعدم، إنه وسط العدم والكل. وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين، فنهاية الأشياء وبدايتها أو أصلها، يلفهما سر لا سبيل إلى استكناه).
• في هذه الكلمات يضع باسكال العقل الإنساني أمام مرآة حدوده، بين اتساع اللامحدود وضآلة ما لا يُرى، في صورة تجمع الدهشة والخشية معًا.
• ولعل ما يزيد هذه العبارات بهاءً أن باسكال كتبها في زمن كانت فيه انشطارية الذرة وانقسامها مجرد تنبؤات وتكهنات؛ فهي اليوم أكثر روعة وتفرّد بعد أن أثبتها العلم بالدليل القاطع.
• وبذا يكون الإنسان أكثر بعداً عن إدراك الطرفين (اللامحدود والعدم)، وعن استدراك كنه أصل الأشياء ونهاياتها وبداياتها، ومهما بلغ العقل الإنساني من قدرة على التحليل والتجريد.
• ولكن بالرغم من ذلك لا يكف الإنسان عن المحاولات والتكهنات الخيالية والتخمينات المتهورة من أجل الوصول لمعرفة أصله ومصيره ونهاية وبداية الكون والعالم.
• وعن استدراك كنه أصل الأشياء ونهاياتها وبداياتها. ومهما حاول العقل الإنساني أن يمد بصره في آفاق اللامحدود، أو يغوص في أعماق اللامتناهي في الصغر، فإنه يقف عند حدود يعجز عن تجاوزها.
• وهنا، يجد القلب المؤمن في الوحي ما يعجز العقل عن بلوغه، كما عبّر الإمام فخر الدين ابن عساكر الدمشقي في القرن الثاني عشر الميلادي، السادس الهجري، حين قال:
اعلم أرشدنا الله وإياك أنه يجب على كل مكلَّف أن يعلم أن الله عزّ وجلّ واحد في ملكه، خلق العالم بأسره: العلويّ والسفليّ، والعرش والكرسي، والسماوات والأرض، وما فيهما وبينهما. جميع الخلائق مقهورة بقدرته، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ليس معه مُدبّر في الخلق، ولا شريك في الملك. هو حيّ قيّوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، عالم بالغيب والشهادة، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. يعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، لا رطب ولا يابس، إلا في كتاب مبين.
أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، فعال لما يريد، قادر على ما يشاء. له الملك، وله الغنى، وله العز والبقاء، وله الحكم والقضاء، وله الأسماء الحسنى. لا دافع لما قضى، ولا مانع لما أعطى، يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء.
لا يرجو ثوابًا، ولا يخاف عقابًا. ليس عليه حق يلزمه، ولا عليه حكم. وكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل. لا يُسأل عما يفعلون، وهم يُسألون.
موجود قبل الخلق، ليس له قبل ولا بعد، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا أمام ولا خلف، ولا كلّ ولا بعض. ولا يُقال: متى كان؟ أو أين كان؟ أو كيف؟ كان بلا مكان. كوَّن الأكوان، ودبّر الزمان، ولا يتقيّد بالزمان، ولا يتخصّص بالمكان. ولا يشغله شأن عن شأن، ولا يلحقه وهم، ولا يكتنفه عقل، ولا يتمثل في النفس، ولا يُتصوّر في الوهم، ولا يُتقَيّف في العقل، لا تلحقه الأوهام والأفكار. ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.
• وهنا، بعد أن يسرد ابن عساكر هذه الصفات التي تحيط بجلال الخالق وكماله، نجد أنفسنا في مواجهة حقيقة ثابتة: فبينما تتسارع كشوفات العلم وتثبت ما كان بالأمس تخمينًا، يظل الإنسان في مكانه الأزلي بين العدم والكلّ، يبحث عن المعنى، تارة بعين الفيلسوف التي تتأمل في أبدية الكون، وتارة بقلب المؤمن الذي يتلمّس جلال الخالق. ولعل سرّ الجمال في هذه الرحلة أن الطريق نفسه – لا الإجابة – هو ما يمنح الوجود قيمته.
آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق وجمعة مباركة.