مقالات

أشجار الذاكرة في السودان بمناسبة أعياد الشجرة – الحلقة 4

بقلم : د. عبد العظيم ميرغني

أشجار الذاكرة في السودان

بمناسبة أعياد الشجرة – الحلقة 4

• نبدأ رحلتنا في هذه الحلقة من أشجار الذاكرة بشجرة “السؤال”، وهي تبلدية شامخة تقع في قرية كالنده، على بُعد نحو عشرة كيلومترات غرب مدينة العباسية بجنوب كردفان. اعتاد الأهالي اللجوء إليها في مواسم شح الأمطار، حيث يؤدون عندها طقس الاستغفار وتلاوة القرآن طلباً للسقيا. ويبدأ الطقس بصعود الشيخ المقرئ إلى قمة الشجرة، ثم يشرع في التلاوة بصوت جهوري. وبعد أن يفرغ من قراءة كل صفحة من المصحف ذي الصفحات المنفصلة، يُسقطها لتتلقفها الأيادي المنتظرة أسفل الشجرة قبل أن تمس الأرض، ثم يتواصل هذا المشهد حتى تتجمع السحب وينهمر المطر.

• شجرة “الظهر” هي شجرة هجليج ضخمة كانت تنتصب على بُعد نحو 40 كيلومتراً شمال القدمبلية، على طريق القضارف – الخرطوم. اعتاد المسافرون في الماضي التوقف عندها لأداء صلاة الظهر أثناء رحلاتهم بين الخرطوم والقضارف، سواء في زمن السفر بالدواب أو حتى بعد ظهور اللواري، ثم قُطعت هذه الشجرة منذ سنوات طويلة، لكن الموقع ما زال يحتفظ باسمها القديم: “شجرة الظل”.

• “الشجرة المسجد” هي تبلدية عملاقة يبلغ محيط جذعها نحو 21 متراً، ويضم جذعها تجويفاً واسعاً أشبه بالغار، يتسع لنحو عشرين شخصاً، وله مدخل خاص، وفي أعلاه كوتان تتيحان التهوية الطبيعية. تقع هذه الشجرة في منطقة تُعرف باسم غلام الله بحي سوبا في مدينة الروصيرص، وتُستخدم من قبل جماعة تابعة للشيخ المأمون، أحد شيوخ الطريقة السمانية، للتعبد داخلها.

• “الشجرة الخزان” هي تبلدية عملاقة تقع في غابة الدودية بقرية الرحيمة في ولاية شمال كردفان. وقد سُمّيت الغابة بهذا الاسم نسبة إلى كلمة “الدود” أي الأسد، إذ كانت في الماضي موطناً للأسود، ثم تميزت هذه التبلدية بوجود غرفتين داخليتين ونوافذ تسمح بمرور الهواء، وكانت وما زالت تُستخدم كخزان ضخم للماء، وأيضاً كمأوى للعباد والزهاد.

• شجرة “الدومة” في أم درمان، التي حمل اسمها شارع الدومة بحي ود نوباوي، كانت قائمة على الشارع المعروف باسم شارع السيد عبد الرحمن، حيث يقع منزل الزعيم عبد الرحمن المهدي، زعيم الأنصار وحزب الأمة، إلى جانب منازل آل المهدي. وقد طغى اسم شارع الدومة على اسم شارع السيد عبد الرحمن في الجزء الذي وُجدت فيه الشجرة. وأصل هذه الشجرة يعود إلى منزل السيد محمد أحمد الشاذلي، والد كل من السيد عبد الرحمن شاخور، قطب نادي المريخ المعروف، والسيد حسن الشاذلي، والد بشرى الذي هو والد اللواء الهادي بشرى. وقد عُرفت هذه الشجرة لأول مرة عام 1899م بعد معركة كرري، حين كانت السيدة الصالحة “بت الشاذلي” تلزم منزلها في غياب زوجها وأبنائها خلال رحلاتهم التجارية إلى جنوب السودان. اعتادت أن تؤدي صلواتها في ناحية معينة من فناء المنزل، فأنبت ماء وضوئها شتلة دوم صغيرة في تلك البقعة، وداومت على رعايتها حتى نمت وأصبحت شجرة باسقة. وعندما جرى تخطيط مدينة أم درمان في عهد مفتشها المستر برمبل، توسطت الدومة أحد أكبر ثلاثة شوارع رئيسية بالمدينة: شارع أبو روف، وشارع ود البصير، وشارع الدومة الذي سُمّي باسمها. ولم تشأ السلطات حينها قطعها، بل أبقتها كمعلم بارز تدور حوله حركة المرور على هيئة “صينية”، لما لها من قيمة تاريخية. ثم انتهت حياة الشجرة بحادث مروري، إثر اصطدام سيارة بها، فسقطت وهي في نحو التسعين من عمرها. جرت محاولة لإعادتها إلى مكانها بتثبيتها بالأسمنت والخرسانة لتبقى رمزاً للشارع والمنطقة، لكنها لم تصمد سوى بضعة أشهر، ثم في أوائل التسعينيات جرت محاولة أخرى بزراعة شجرة دوم ناضجة في موقعها، غير أن هذه المحاولة لم تُكتب لها النجاح رغم العناية التي حظيت بها. هكذا رحلت الدومة، لكن اسمها ظل باقياً.

• كانت هناك تبلدية ضخمة ومعمّرة تُعقد تحت ظلالها محكمة نظار عموم المسيرية في نواحي مدينة المجلد، منذ عهد الأمير علي الجلة، مروراً بالناظر نمر، ثم الناظر بابو نمر. وما تزال هذه التبلدية قائمة حتى اليوم، وقد غدت ملاذاً لأصحاب الحرف والأغراض، الذين يتخذون من جذورها البارزة فوق سطح الأرض مقاعد يجلسون عليها. وأمام بيت الناظر تقف مجموعة أخرى من أشجار الجوغان، يُروى أن الزراف كان في الأزمنة الماضية يستظل بها، ثم في منتجع “اللو” الواقع بنواحي حي العرب جنوب شرق منطقة أبيي، تنتصب أشجار العرديب التي اعتاد نظار المسيرية، وآخرهم الناظر بابو نمر، قضاء أوقات المصيف عندها.

• أشجار زفات رهد سبدو: تقع هذه الأشجار بمحلية بحر العرب (ولاية شرق دارفور). كانت في زمن الإنجليز يجتمع فيها نظار القبائل من كافة نواحي السودان للنظر فيما استجد من قضاياهم فيما يسمى بمعرض القبائل، الذي تجرى على هامشه عمليات استعراض للخيول. ثم شهدت أشجار زفات سبدو في عهد الناظر إبراهيم موسى مادبو ناظر عموم الرزيقات العديد من الزفات، أولها زفة أول حكومة وطنية سنة 1954م حيث زارها الزعيم الراحل إسماعيل الأزهري. وفي العام 1960م زارها رئيس جمهورية مصر العربية الزعيم جمال عبد الناصر والرئيس إبراهيم عبود والوزير أحمد ماهر، بدعوة من الناظر إبراهيم موسى مادبو، والذي كان في طريق العودة من لندن إلى الخرطوم حين توقف في القاهرة، فدعاه الرئيس عبد الناصر للعشاء، ثم وجه الدعوة للرئيس عبد الناصر لزيارة دار رزيقات للمشاركة في زفة رهد سبدو. فلبى الزعيم عبد الناصر الدعوة بعد أن استأذن الرئيس عبود وترافقا معاً لتلبيتها، إلا أن القدر كان أسرع إذ توفي الناظر إبراهيم قبل أيام من المناسبة، فاستقبلهما أخوه الناظر آدم مادبو الذي خلفه. كما شارك الرئيس السابق عمر البشير في زفة سبدو لعام 2011م. ومن أشهر أشجار الزفة شجرة مهاجرية وشجرة حراز يبلغ طولها 35 متراً وقطر ساقها عند مستوى الصدر 3 أمتار، وقطر الظل (تاج الشجرة) 35 متراً. وقد شهدت هذه الأشجار حضور كثير من القيادات الوطنية التنفيذية البارزة، من أمثال المرحوم أحمد مكي عبده، الذي قيل إنه قد كُلِّف بالإشراف على الترتيبات اللازمة لزيارة الرئيسين عبود وعبد الناصر، كما شهدت هذه الأشجار كثيراً من جلسات المحاكمات والمصالحات.

• شجرة محو بك أو الماحي بيه أو شجرة غردون: كانت هذه الشجرة الضخمة، التي يرجح أنها شجرة حراز، قائمة جنوبي الخرطوم ضمن غابة صغيرة بجوار النيل، وتحيط بها عدة روايات متباينة.

وفق الرواية الأولى، كانت الشجرة مقراً لمفتش مصري بدرجة “بك” يُدعى الماحي، أُرسل عام 1826م لبحث التعويضات الخاصة بأعراب الحماداب، الذين كانوا يقطنون شريطاً ضيقاً لا يتجاوز أربعة كيلومترات بمحاذاة النيل، في المنطقة المعروفة حالياً بالري المصري. وعندما احتاجت الحكومة المصرية آنذاك أراضي لإقامة قياس النيل، صدر أمر بترحيل هؤلاء السكان إلى مدينة الحماداب الحالية، فحلت محل قريتهم المنشأة الجديدة، ومن ثم حملت الشجرة اسم هذا المفتش. وبعد سقوط دولة المهدية، خلفه على الإشراف على المكان حاكم عام السودان الإنجليزي غردون باشا، الذي –بحسب رواية أبو سليم– عسكر عندها عدة مرات منذ عام 1874م، حتى اغتيل في واقعة تحرير الخرطوم في 26 يناير 1885م، فأطلق الناس عليها اسم “شجرة غردون”.

أما الرواية الثانية، التي أوردها الدكتور جعفر ميرغني استناداً إلى “مخطوطة كاتب الشونة” في تاريخ السلطنة السنارية والإدارة المصرية (1834م)، فتذكر أن حكمدار عموم السودان ماحي بيه أورفالي دُفن تحت هذه الشجرة، التي كانت ضمن مجموعة أشجار سيال تُعرف بـ “شجرات النقارة” في معسكر الجيش التركي هناك. وبعد أن غمر فيضان النيل المقبرة وأزالها، ظل اسم “ماحي بيه” مرتبطاً بالشجرة. ومع دخول كتشنر أم درمان، جاء سياح لاستكشاف البلاد، لكن بسبب الأوضاع الأمنية لم يُسمح لهم إلا بالإبحار في النيل الأبيض حتى جبل أولياء، فابتكر أحد مفتشي الحكومة قصة للترويج للسياحة تقول إن غردون باشا زرع هذه الشجرة ورعاها، ومن ثم انتشر اسم “شجرة غردون”.

ثم بعد قيام مشروع الري المصري، أصبحت الشجرة تُستخدم كغرفة ضيافة لكبار الزوار، إذ كانت الباخرة النيلية تتوقف عندها لإخطار إدارة خزان جبل أولياء بالاستعداد لعبور الباخرة، ويجلس تحتها الضيوف المهمون للاستراحة.

وقبل أن تحمل اسم “ماحي بك”، كانت تُعرف باسم “أم عش” لكثرة الطيور المهاجرة التي كانت تتخذها مأوى، حيث امتلأت أغصانها بأعشاش الطيور. وكانت المنطقة الممتدة من “أم عش” حتى موقع كبري النيل الأبيض الحالي –بما في ذلك غابة السنط الحالية– محمية طيور معلنة منذ عام 1932م.

ومع مرور الزمن، تراجع استخدام اسمَي “محو بك” و”غردون باشا”، وبدأ الناس يطلقون على المنطقة المحيطة بها ببساطة اسم “الشجرة”، وهي الآن إحدى ضواحي الخرطوم الجنوبية. وظلت بقايا هذه الشجرة التاريخية محفوظة في مخازن الري المصري بمنطقة الشجرة حتى وقت قريب.

• هذه الأمثلة، المقتبسة من كتابي “شدرة.. شدرتين.. وغابة”، تكشف لنا أن الأشجار ليست مجرد كائنات حية، بل هي أرشيف مفتوح يروي قصة الإنسان والأرض معاً.

• كتفي بهذه الحلقات الأربعة من كتاب “شدرة.. شدرتين.. وغابة”، ومن يرغب في المزيد فليتواصل معي في الخاص لأزوده بنسخة إليكترونية،

آمالي في حسن الخلاص، وتقديري العميق.

 

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى