مقالات

أشجار الذاكرة في السودان بمناسبة أعياد الشجرة – الحلقة 2

بقلم : عبد العظيم ميرغني

أشجار الذاكرة في السودان

بمناسبة أعياد الشجرة – الحلقة 2

• بداية رحلتنا مع أشجار الذاكرة في هذه الحلقة من نواحي الزومة بالولاية الشمالية، حيث كانت تقف شجرة درويش الزومة الما شرب متمومة (المريسة).

شجرة سنط عتيقة عمرها ثلاثة قرون، استخدمها الشيخ درويش خلوةً لتعليم القرآن الكريم، ومسجداً للصلاة، ومأوى للناس. وكانت بمثابة حرم آمن، يترك الناس في محيطها أمتعتهم دون خوف.

لكن هذه الشجرة ذبلت وجفت قبل سنوات قليلة، وعندما قطعت، بلغ إنتاج جذورها من الفحم خمسةً وثلاثين جوالاً، في دلالة على ضخامتها.

• ومن الشرق، نجد شجر الدوم في شمال وشرق كسلا، هبة إلهية لسكان المنطقة، في أودية مثل حفرت، جبرت، تلكوك، همشكوريب، ودرديب، ووادي كبريت.

ولكل أسرة أشجارها الموروثة التي تمثل سنداً اقتصادياً وحياتياً؛ ثمارها غذاء، أجزاؤها الصلبة علف، وسعفها مادة للبروش والحرف اليدوية. حتى الفروع والجذوع إذا سقطت تستخدم في البناء والأثاث.

وفي عرف البجة، تحظى هذه الشجرة بقدسية خاصة، تصل إلى حد القسم عليها بدلاً عن القسم بالمصحف، وأحياناً التنازل عن الحقوق احتراماً لها، خاصة في نزاعات الأراضي والإسكان.

• ننتقل غرباً في الرحلة إلى بارا الجميلة، حيث لبخة بارا أو “جميزة زانوق”. وزانوق هذا هو ناظر عموم دار حامد محمد تمساح سيماوي.

المشهور بحكم قوة شخصيته وقدرته الفائقة على فرض سلطته؛ إذ كان لا يحابي ولا يجامل في سبيل إحقاق الحقّ، وجاءت التسمية من واقع أنه “يزنق” المجرمين ويرغمهم على الاعتراف.

ظل الشجرة واسع، ويسع لعدد الفي شخص. وتحتها تم تحنيط جثمان سلطان الفور، السلطان تيراب، الذي توفي في بارا مسموماً وهو في طريق عودته من مطاردة السلطان هاشم ملك المسبعات.

شهدت الشجرة أيضاً أحداثاً سياسية مهمة في عهد الحكم الثنائي الإنجليزي، منها تآمر الاتحاديين لإنزال العلم البريطاني من سارية مبنى الإدارة وحرقه، مع الإلقاء على العلم المصري دون مساس.

لكن أشهر أحداثها كانت قضية عام 1911م، التي عرفت لاحقاً بـ (كسّار قلم مكميك).

في تلك السنة، امتنعت بعض القبائل عن دفع ضريبة القطعان، فحوكم الشيخ عبد الله ود جاد الله، أحد مشائخ قبيلة الكواهلة.

ترأس المحكمة المفتش الإنجليزي (ماك مايكل) وجاء حكمه يضم ود جادالله وقبيلته لقبيلة الكبابيش. وعندما هم المفتش بكتابة حيثيات الحكم، انتزع ود جاد الله القلم من يده وكسره.

تعددت الروايات عن العقوبة التي نالها. إحداها تقول إنه غرزت خوازيق في قدميه وأجبر على المشي أمام الناس. وأخرى تذكر سلخ باطن قدميه.

خلال المحكمة نادته جاريته مستورة بت كوكو بقولها: توري.. توري. فالتفت إليها قائلاً: لعل تورك ما جابلو ضلعة، أي لعل ثورك لم تتغير مشيته من الألم. فأجابته بالنفي ثم تغنت به في أغنية أصبحت من أشهر ما قيل في الواقعة:

غنيت بجر النم.. يا دقر الحرايق أصبحت كارف السم

عشميق الأصم

الليلة البلد يتباشروا ناسو يا بحر المحيط مين عبرو وقاسو

بريطان والترك ما لينوا راسو والعظم الكبير كسرو وشرب ساسو

يا عيده الضحية البفتحولو البيت رايو مكملو كسر قلم ماكميك

هذه الأبيات كانت تمجيداً لشجاعة ود جاد الله وصلابته أمام السلطة الاستعمارية.

• كما ارتبطت الشجرة بأغنية أخرى في سياق مختلف، هي أغنية فتيات بارا عن كاتب المحكمة السيد أمين سيد أحمد قريش، والذي كان وسيماً في طلعته وهندامه، وكانت له هيبته ومكانته في المحكمة، أغنية الغالي تمر السوق.. كان قسموه ما بحوق.. زولاً سنونو بروق.. في محكمة زانوق.

وهكذا تبقى لبخة بارا شاهدة صامتة على ذلك اليوم، تحفظ في جذعها وضلها ما لم تسجله دفاتر المحاكم.

• كما احتضنت أشجار بارا حكايات أهلها، احتفظت شجرة لبخ شمبات بذكريات طلاب الجامعة وأحلامهم. فقد ظلت لعقود، في قلب مجمع جامعة الخرطوم بشمبات، مأوى للأنشطة الثقافية والاجتماعية لطلاب الزراعة والبيطرة والغابات والإنتاج الحيواني، شاهدة على صداقات وأحداث نسجت ذاكرة أجيال من الخريجين.

• وما جميزات الكوة إلا مثال آخر على كيف تتحول الأشجار إلى علامات طريق تحفظ في أوراقها وأغصانها تاريخ المكان. ففي مدينة الكوة بالنيل الأبيض، تقف هذه الجميزات التي غرسها الشيخ أحمد ابن عوف حاج حمد عام 1902، إلى جانب أشجار العرديب والتبلدي والسدر، شاهدة على رؤية رجل أحب الزراعة وأتقن فنونها، وبقيت حتى اليوم معلماً بارزاً يزين المدينة.

• ولأكثر من قرن، ظلت هجليجة السيرة في الفاشر، وهي شجرة عتيقة شرقي المدينة، شريطاً حيّاً من ذكريات الطفولة وطقوس المجتمع. كانت مقصداً للأطفال وأسرهم في احتفالات الختان، حيث يلتفون حولها في أجواء تملؤها الزغاريد والأهازيج.

يتزين الصغار بالجلابيب والملافح والبناطلين الزاهية، ويحملون السيوف أو يركبون الدواب، ويطوفون حول الشجرة وسط الزغاريد والأهازيج.

يقطع الفرسان فرعاً من الشجرة، يرشون به الحاضرين بعد غمسه في الماء، في طقس مبهج يوثق هذا الارتباط بالأرض والشجر.

• ومن طقس الاحتفال إلى طقس القضاء، تبرز شجرة الناظر علي الغالي: شجرة عرديب ضخمة اتخذها ناظر عموم الهبانية علي الغالي مقراً لمحكمته وسماع دعاوى التقاضي.

• يقدم المتقاضي دعوته تحت وقع عيني الناظر المسلطة عليه، فيتلجلج صاحب الدعوى الباطلة ويتماسك صاحب الدعوى الحقة.

• فيقتطع له الناظر صفقة من الشجرة ليسلمها للمدعى عليه كإعلان تكليف بالحضور أمام المحكمة قبل أن تجف تلك الصفقة.

وغالباً ما يبادر المدعى عليه برد الحق لصاحبه قبل أن يبلغ لمجلس الناظر حاملاً معه الصفقة دليلاً على تجاوز الإشكالية.

ثم يلتمس العفو من الناظر ويطالب بالاحتفاظ بالصفقة ليبشر بها في حلقات غناء الحكامات، كدليل فخر بأنه أدى خدمة للناظر على أكمل وجه، فيكون جزاؤه عندئذ سيل من الزغاريد.

• إن هذه الأمثلة، المقتبسة من كتابي “شدرة.. شدرتين.. وغابة”، تكشف لنا أن الأشجار ليست مجرد كائنات حية، بل هي أرشيف مفتوح يروي قصة الإنسان والأرض معاً.

آمالي في حسن الخلاص، وتقديري العميق.

 

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى