
أشجار الذاكرة في السودان
بمناسبة أعياد الشجرة
• في أنحاء متفرقة من السودان، تنتصب أشجار عجوز، صامتة، لكنها شاهدة على أحداث مفصلية في تاريخ البلاد.
• في هذه الرحلة بين أشجار الذاكرة، نبدأ من الشرق، حيث تظلّل مدينة سنكات شجرة لبخ عمرها أكثر من قرن: هي لبخة الملك جورج الخامس: شجرة لبخ معمرة غرسها جورج الخامس ملك بريطانيا العظمى في مدينة سنكات في يوم الأربعاء 17 يناير 1912م عند زيارته للسودان، في طريق عودته من الهند ترافقه الملكة ماري، حيث جرى تتويجه هناك ملكاً على بريطانيا.
• استغرقت زيارة الزوج الملكي للسودان 12 ساعة، حيث رست سفينتهم بميناء بورتسودان في تمام الساعة السابعة والنصف صباحاً حيث أعد لهم برنامجاً رسمياً خاصاً قبل أن يستقلوا قطاراً خاصاً حملهم من بورتسودان إلى سنكات في رحلة استغرقت أربع ساعات.
• وفي سنكات شهد الملك ومن معه عرضاً عسكرياً شاركت فيه كتائب بريطانية ومصرية وسودانية. وكان من بين فقرات ذلك الحفل معركة وهمية بين رجال الدينكا والهدندوة، وعرض لفنون الفروسية عند العرب الرحل.
• وأختتم الحفل بغرس الملك لشجرة لبخ في مكان الحفل. وقد كانت رسالة الملك لأهالي سنكات في ذلك الحفل بعد غرس الشجرة أنه يتوجب على كل فرد غرس شجرة أو شجرتين إذا أرادوا استمرارية الحياة في هذه المنطقة.
. لا زالت شجرة الملك جورج موجودة. وقد كانت حتى وقت قريب مقراً لمحاكم نظار وعمد المنطقة للنظر في خلافات ونزاعات المواطنين.
• ومن شرق السودان إلى شماله، تحملنا الذاكرة إلى أرض الملوك، حيث غابة الكرو المتحجرة، والتي تقع على بعد ستة عشرة كيلومتراً من جبل البركل بمحلية مروي في الولاية الشمالية وبالقرب من مدافن ملوك وملكات مملكة نبتة وخيولها.
• تم حجز هذه الغابة بواسطة الهيئة القومية للغابات في العام 2011م، في مساحة 70 فداناً من متحجرات الأشجار الصنوبرية التي يعتقد أنها كانت سائدة في المنطقة قبل حوالي أربعين مليون عاماً مضت.
• ويعتقد أن هذه الغابة واحدة من ستة غابات متحجرة في العالم تم اكتشافها حتى الآن.
• ومن الشاهد الصامت على ملايين السنين، إلى الشاهد الحي على ملاحم القرن الماضي، حيث تقودنا الذاكرة غرباً إلى دار مساليت، حيث أشجار السلطان تاج الدين التي تحفظ ذكرى صليل السيوف وصهيل الخيل.: ثلاث أشجار عرديب جنوب غرب مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور.
• إرتكز عندها السلطان وجيشه لقتال الفرنسيين في معركة كرندنق قبل مائة عام ونيف. وقد تمكن في تلك المعركة من إنزال أقسى هزيمة على جيوش الامبراطورية الفرنسية الغازية.
• لا زالت هذه الأشجار، بجذوعها الملتوية وظلها الكثيف، تحرس المكان كما لو كانت حراساً صامتين منذ قرن.
• وكما كانت أشجار السلطان تاج الدين ملاذاً لجيشه في زمن القتال، كانت بعض الأشجار الأخرى ملاذاً للناس في زمن الشكوى وطلب الحق، مثل شجرة القاضي الأطرش: شجرة هجليج كانت قائمة في الفضاء الفاصل ما بين منزل السلطان علي دينار والجامع، يلجأ إليها أصحاب المظالم ممن تضرروا من السلطات المحلية (العمد والشرتايات). إما لعدم إنصافهم أو لكونهم هم أنفسهم طرفاً أو خصوما في دعاويهم.
• ولتخوف أصحاب المظالم هؤلاء من انتقام أولئك العمد أو الشرتايات إن هم استأنفوا مظالمهم للسلطان، يلجأ أصحاب هذه المظالم المغلوبون على أمرهم إلى هذه الشجرة، يجلسون تحتها حتى يمر عليهم عساكر السلطان فيستعلمونهم عن شكاويهم ويرفعونها للسلطان نيابة عنهم، مما يرفع عنهم حرج ومغبة التظلم المباشر والتي عادة لا يحمد عقباها.
• ومن شجرة كانت ملاذاً للمظلومين طلباً للإنصاف، إلى شجرة أخرى كانت ملاذاً للروح في خلوة العابدين، حمراية ديم المشايخة: وهي شجرة ضخمة تعرف محلياً بالحمرا، توجد شرق قرية ديم المشايخة على ضفاف النيل الازرق اتخذها الشيخ هجو متعبداً لمدة ثلاث و عشرين عاماً، يجرد فيها لالوبته أو مسبحته الألفية. هذه الشجرة هي التي قالت فيها مغنية ذلك العصر ممجدة الشيخ هجو:
وقت الرجال أمرا … هجو داخل الحمرا
• والشيخ هجو هذا هو حفيد الشيخ بانقا ابو يعقوب جد السادة اليعقوباب، وهو قريب عمارة دنقس أول ملوك الفونج ومؤسس سلطنة سنار، وهو أول من أخذ طريق القوم، الطريقة القادريه في السودان. وعرف الشيخ هجو بمجاهداته ورفضه ما رآه انحرافاً في الثورة المهديه بعد موت زعيمها الإمام المهدي.
• كما عرف عنه تمسكه بمبدأ التصوف والزهد بدلاً عن الجاه والسلطان فصدق فيه قول المغنية: وقت الرجال أمرا … هجو داخل الحمرا”.
• لكن الأشجار ليست دائماً للصمت والتعبد، ففي قلب المدن كانت ملتقى الناس وذاكرة الحياة اليومية، كما في أشجار واد مدني: نيمة النقلتية (الإسكافية) وتقع بالقرب من مبنى شيكان الجديد؛ ونيمة الصحفيين وتقع بالقرب من السينما الوطنية؛ وهجليجة خدرة، وهي شجرة هجليج كانت تتخذها امرأة تدعى خدرة موقعاً لتجارة الخضروات بحي المدنيين بواد مدني؛ ونيمة الحلاقين وتقع بالقرب من مخبز عبد الحليم وقد أسسها ورعاها الحلاق كباشي سليم صاحب صالون النعيم. كانت هذه الشجرة بمثابة ملتقى ومنتدى الرياضيين ومعاشي المدينة الذين كان معظمهم يعمل بمشروع الجزيرة. وشجرة نيم جزيرة الفيل محطة مهدي؛ وشجرة هجليج شارع مايو طرف محطة الشجرة. كل هذه الأشجار للأسف تم قطعها بحجة توسعة شوارع المدينة ما عدا هجليجة شارع مايو ونيمة النقلتية فلا زالتا باقيتان.
• وهكذا، من لبخة الملك جورج في سنكات، إلى عرديبات السلطان تاج الدين في كرندنق، وشجرة القاضي الأطرش في الفاشر، ومروراً بحمراية الشيخ هجو، وأشجار ود مدني، تقف هذه الأشجار شاهدة على قرون من التاريخ، ومخزن وذاكرة لقصص الناس والحروب والمواسم.
• بعض من هذه الأشجار صمد في وجه الزمن، وبعضها غاب تحت ذرائع التوسعة والتطوير. وما بقي منها، إن هوى، هوى معه جزء من روح السودان.
• ما تقدم مقتبس من مؤلفي “شدرة.. شدرتين.. وغابة”، المهداة إلى كل الذين خدموا غابات وأحراش السودان بكل إخلاص وتفان؛ وإلى أرواح شهداء الشرف والواجب.
آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق