
هل تشعر كأنك غريب وسط الزحام؟
• قد يساورك هذا الإحساس، لكنك إذا تأملت قليلاً ستكتشف أنك لست وحدك قط.
• وجودك اليوم هو نتاج سلسلة معقدة من اللقاءات والصدف بين أناس سبقوك.
• لو لم يلتقِ والداك، ثم أجدادك، ومن قبلهم عشرات الأجيال، لما كنت هنا لأسألك هذا السؤال.
• ولو تتبعت نسبك، ستجد أن عدد أسلافك يتضاعف بسرعة مذهلة: بعد 200 عام (ثمانية أجيال) قد يتجاوز 250 شخصاً، وبعد 20 جيلًا فقط يصل الرقم إلى أكثر من مليون.
• وبعد ألف عام يصل نظرياً إلى أكثر من مليون تريليون – أكثر من كل البشر الذين عاشوا على الأرض.
• الرقم قد يبدو مستحيلاً، لكن السبب هو أن الأسلاف يتكررون بفعل التزاوج بين الأقارب، ما يقلل العدد الفعلي، أو هكذا يقول بيل برايسون في “تاريخ موجز لكل شيء تقريباًA Short History of Nearly Everything”.
• وإذا ما تأملت أكثر ستكتشف أـن الجينات ليست كل القصة. أحياناً تغيّر تفاصيل صغيرة، لا في النسب بل في القرارات والظروف، مسار الحياة كلياً.
• هذا ما اكتشفه عالم الأرصاد إدوارد لورنز، عندما أجرى تجربة بسيطة للتنبؤ بالطقس عام 1960، واستخدم فيها ستة منازل عشرية (0.506127)، وحين أعادها في العام التالي، 1961، مكتفيا بثلاث منازل عشرية فقط (0.506)، ظنًّا منه أن الفارق سيكون ضئيلاً ولن يؤثر في النتائج.
• كانت المفاجأة أن النموذج الحسابي انحرف انحرافًا كبيرًا، وأنتج نتائج مختلفة تمامًا!
• هكذا توصّل لورنز من هذه الملاحظة الصغيرة إلى استنتاج مذهل: وهو ما أصبح يُعرف لاحقًا بـ “أثر الفراشة.
• أي أن خفقة جناح فراشة في هونغ كونغ قد تثير إعصارًا في تكساس أو عاصفة في الخرطوم.
• من هنا نشأت نظرية الفوضى، التي أثبتت أن وراء العشوائية الظاهرة يوجد نظام دقيق، وأن كل شيء متشابك في نسيج واحد.
• وهذا النمط من التوازن الخفي لا يقتصر على الطقس وحده، فالطبيعة تميل إلى تحقيق أنماط دقيقة من الاستقرار في مجالات شتى.
• ومن أروع هذه الأمثلة ما يحدث في عالم الأحياء، حيث يحافظ التطور على نسب شبه ثابتة بين الذكور والإناث عند الولادة، قريبة من 50%، في معادلة لا يد لنا في صياغتها، لكنها تشدنا جميعاً إلى قاعدة مشتركة.
• ووفقًا لهذه المعادلة، فإن تساوي نسبة الجنسين عند الولادة (50% ذكور و50% إناث) تحكمه عوامل وراثية. وإذا اختل التوازن لصالح أحد الجنسين، يعمل الانتخاب الطبيعي على إعادته.
• فعندما يقل عدد الذكور مثلاً، تزداد فرصهم في التزاوج، وتُفضَّل الإناث اللاتي يلدن ذكورًا، والعكس صحيح إذا كان عدد الإناث أقل.
• ومع تعمّق فهم العلماء لآليات الانتخاب، بدأ المفهوم يتجاوز حدود علم الأحياء ليشمل مجالات أخرى.
• حيتما جاء في سبعينيات القرن العشرين عالم الحيوان البريطاني ريتشارد دوكنز، ليمنح الفكرة بعدًا جديدًا في كتابه الشهير الجينة الأنانية، حيث تناول انتشار الأفكار والثقافات وكأنها كائنات حية تخضع لآليات الانتخاب والتكرار.
• ومن هنا ابتكر مصطلح “الميمة”(Meme) لوصف الوحدات الثقافية – فكرة أو زي أو سلوك – التي تتكاثر عبر العقول وتخضع للبقاء للأصلح.
• وكما تتحور الجينات، تتحور الميمات، فتنتقل من جيل إلى آخر وتتشكل من جديد، أحيانًا بفعل أخطاء صغيرة في النقل.
• ولا يقتصر أثر الميمات على الثقافة الشعبية أو العادات اليومية، بل قد يتسلل إلى نصوص القوانين والدساتير، حيث يمكن لتحريف بسيط أو خطأ في الصياغة أن يعمل كميمة قوية تغيّر فهمًا أو تُعيد تشكيل واقع بأكمله.
• ولعل أوضح مثال على ذلك ما حدث في الدستور الانتقالي السوداني لعام 2005، الذي وضع الموارد الطبيعية القومية تحت السلطات القومية، حسب البند 15 من الجدول (أ) من بروتوكولات تقسيم الثروة والسلطة.
• ووضع سلطات الولايات تحت البند 21 من الجدول (ج)، والتي تنص في نسخته الإنجليزية على: “تنمية الموارد الطبيعية الولائية والموارد الغابية بالولاية، والمحافظة عليها وإدارتها”.
• لكن في النسخة العربية، سقطت كلمة “ولاية” من هذا البند المتعلق بالسلطات الولائية في الترجمة، فتحوّل المعنى ليُوحي وكأن الغابات شأن ولائي: تنمية الموارد الطبيعية والموارد الغابية والمحافظة عليها وإدارتها”.
• هذا الخطأ البسيط – أو “الطفرة” بالمفهوم الميمي – أدّى لاحقًا إلى أن تقوم بعض الولايات بنسخ قانون الغابات القومي لسنة 2002 وحذفت منه كل ما يشير إلى اختصاص قومي ونسبته إلى الولاية، بل ومُنح الوزير الولائي الصلاحيات المخصصة لرئيس الجمهورية في قانون الغابات القومي.
• هكذا أصبح الدستور القومي مصدرًا ميميًّا أنتج نصوصًا ولائية متحورة بفعل خطأ في الترجمة، ما غيّر الفهم القانوني والدستوري على المستويين القومي والولائي.
• فما بدا هفوة لغوية، تحول إلى طفرة ميمية غيّرت مسار السياسة والقانون في السودان.
• في مشهد يذكّرنا بأن حياتنا وثقافاتنا وأنظمتنا ليست جزرًا معزولة، بل خيوط متشابكة في شبكة هائلة من التأثيرات، وأنك أنت نتاج ملايين الأسلاف وأنك ثمرة ملايين الأسلاف، وخلاصة أفكار وقوانين تناسخت عبر العصور.
• ومن هذا الترابط العميق، فأياً كان مكانك – في مقهى، أو في إستاد– فهناك احتمال كبير أن من حولك أقارب لك، بيولوجياً أو فكرياً.
• فأنت جزء من حشدٍ أكبر مما تتخيل، وتتشابك مع من حولك بطرق لا تراها. وما إحساسك بالغربة إلا غشاوة على عين، حين تزول، تدرك أنك في قلب الحشد لا على هامشه.
آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق.