مقالات

حكايات من الفاشر: من شجرة عز الدين وهم إلى الدمباري أبو زيد

بقلم : د. عبد العظيم ميرغني

حكايات من الفاشر: من شجرة عز الدين وهم إلى الدمباري أبو زيد

• في شمال دارفور، وبالتحديد في عاصمة السلطان الفاشر ونواحي مليط، تجسد الأشجار ذاكرة العدل والتاريخ.

• شجرة القاضي الأطرش كانت ملجأ المظلومين زمن السلطان علي دينار، وشجرة السيرة ملتقى كرنفالات الأطفال، ونبقاية أبكورة منتجع الطيور والحيوانات، وغيرها كثير مما وثقته في كتابي “شدرة.. شدرتين.. وغابة”.

• اليوم نحكي عن شجرة عز الدين وَهَم كما رواها الأخ البيئي يوسف الطيب. كانت شجرة حرازة ظليلة تقع جنوب قهوة البنابر الشهيرة بالفاشر، يجلس تحتها العمال وأصحاب الحرف الخفيفة منذ عقود طويلة، حتى جاء الطيب المرضي محافظًا لدارفور.

• عز الدين من ظرفاء الفاشر، جمع بين خفة الظل والجرأة السياسية، وكان من الساخطين على حكم مايو. وحين رفع النظام شعاره الشهير “بالملايين قلناها نعم”، حرّفه عز الدين بطرافة: قلناها نعم، عشناها وهم! ومن يومها لُقّب بـ عز الدين وهم.

• يروي يوسف أن عز الدين رأى ذات يوم جمع الحرفيين تحت الشجرة، فخطر له خاطر طريف: لماذا لا يجعل منها مصدر رزق؟ فوقف بينهم وقال بثقة: هذه الشجرة خصصها لي المحافظ الطيب المرضي، ومن يجلس تحتها يدفع قرشًا في اليوم!”

• ضحك الناس وعدوها مزحة، لكن عز الدين قال بجدية: “سأشكيكم للمحافظ!” ومضى في الحال.

• عند وصوله مبنى المحافظة، صادف سائق المحافظ يستعد للذهاب إلى السوق بسيارة المرسيدس، فطلب منه أن يوصله إلى الحرازة. وما إن وصل، حتى ترجل وخاطب الجالسين: “تدفعوا أم أرجع إلى المحافظ؟” ومن يومها صارت الحرازة مصدر رزقه، دون أن يلتقي المحافظ أو يشتكي له أحد.

• ولم تخل حياة عز الدين من مواقف أكثر طرافة. حين كان الرئيس نميري يزور الفاشر، كانت المباحث تتحفظ عليه حتى يغادر الرئيس، مخافة أن يفعل شيئًا غير متوقع.

• وفي إحدى الزيارات، تسلل من المراقبة واندس بين الحشود في ميدان النقعة أثناء خطاب النميري. فجأة ارتفع صوته يهتف: “خاين خاين يا…” فسكت الناس، وكررها ثانيةً دون أن يجيبه أحد. وفي الثالثة صاح: “خاين خاين يا قذافي!” فانفجر الجميع ضاحكين، وهتفوا معه، حتى النميري نفسه ضحك وردد الهتاف.

• ولعل روح الدعابة تلك لم تكن مجرد تسلية، بل كانت مرآة لذكاء الفاشريين الذين يواجهون قسوة الحياة بخفة ظل وعمق وعي.

• وهكذا، كما جمعت شجرة الحرازة الناس تحت ظلها وضحكتهم، جمعت قهوة البنابر الناس حول همومهم وطموحاتهم. فكانت امتدادًا لتلك الروح الفاشرية التي تمزج الجد بالدعابة والوعي بالحياة، وتفتح الباب لحكاية صاحبها، حاج آدم أبو زيد، وأسرتِه النوبية الكنزية لتي حملت عبق الشمال إلى قلب دارفور.

• كانت قهوة البنابر معروفة في الثمانينيات كمركز نابض بالحياة، وارتبط اسمها بإذاعة المعارضة السودانية التي كانت تبث من ليبيا، حين كانت الأخبار تُنسب إلى “مراسلنا بقهوة البنابر”.

• وقد شهدت القهوة أحداثًا سياسية ساخنة، منها انتفاضة دارفور عام 1981م، وتعرضت للتخريب، ثم أعيد تأسيسها قرب موضع الحرازة. أما صاحبها حاج آدم، فقد اعتُقل أكثر من مرة بسبب مواقفه السياسية الجريئة.

• تروي دارفور في صمتها الجميل حكاية أسرة حاج آدم أبو زيد، التي جاءت من أقصى الشمال تحمل سحنة النيل وشوق الصحراء، كما وثقت لها في كتابي “الكنوز (الماتوكية): الجذور- التاريخ والثقافة”.

• فاحتضنها سلاطين دارفور وأكرمها أهلها، حتى صارت جزءًا من نسيجها الإنساني في مليط والفاشر ونيالا والجنينة.

• بدأت هجرات الكنوز مع الفقيه الورع الحاج أبو زيد في عهد السلطان محمد الحسين بن محمد الفضل (1838-1883م)، حيث زوجه السلطان إحدى كريمات قبيلة البيقو العريقة، فامتزج الدم النوبي بالفوراوي والبيقاوي.

• تقلد الحاج أبو زيد ولاية مليط، وكان له شأن كبير. ثم توالت أجيال أسرته، ومنهم الحاج أحمد أبو زيد الذي شيد أول منزل من الطين في مليط.

• وقيل إنه أمر بخلط الطين بـ”مرق” لحم الثيران في بناء جدرات منزله، وقد صارت قصة منزله مثلًا سائراً في المدينة، حتى قيل فيه مازحين: “ود أبوزيد بقى أبْدُنّاناي، سوّى ليهو طيناي، ودخل فوقو!”

• أما ابنه الحاج آدم، فجمع بين التعليم والسياسة والإصلاح الاجتماعي، وكان من مؤسسي جبهة نهضة دارفور، واشتهر بمقهاه الشهير الذي أدخل فيه ثقافة الجلوس على البنابر، فصار ملتقى للساسة والمثقفين وطلاب الجامعات.

• وكان ذا نفوذ روحي وشعبي مؤثر، فلقب بـ”الدامباري”، وهي شخصية أسطورية في دارفور قادرة على تحويل مسار الجراد بعصاه بعيدًا عن المزروعات، ولقب أيضًا بـ “أب جراساي” لابتكاره أسلوب الإعلان عن تجارته بقرع الجرس.

• ومن مواقفه السياسية المشهورة أنه حين خُيّر بين ثلاثة خيارات: إما توافق، أو تنافق، أو تفارق، أجاب بثبات: “أنا مفارق”. فصدر قرار بعزله من العمل السياسي، لكنه كسب احترام الجميع.

• لم تتوقف هجرات النوبيين الكنوز عند آل أبو زيد، بل تتابعت إلى دارفور عبر أجيال عدة، من الحاجة بتول أحمد يسن أبوفرغل، التي تزوجت مستشار السلطان علي دينار وكاتم أسراره، الشيخ محمد السناري، وتزوجت إبنتها فاطمة من ناظر عموم الرزيقات الشيخ إبراهيم موسى مادبو. ثم تبعتها هجرات أخرى.

• وهكذا تشابكت مصاهرات النوبيين مع قبائل الفور والبرتي والمساليت والزغاوة والرزيقات وغيرهم، حتى صاروا جزءًا من نسيج الإقليم وذاكرته.

• فمن مليط إلى الفاشر، ومن جبل أم كردوس إلى الجنينة ونيالا وكبكابية، تبقى حكاية النوبيين القادمين من الشمال إلى دارفور شاهداً على أن القلب السوداني أوسع من الجغرافيا، وأعمق من العصبية، وأن التسامح حين يسكن الناس يجعل من الاختلاف جمالًا ومن التعدد قوة.

• هكذا علمتنا دارفور: أن التسامح حين يكون طبعًا لا شعارًا، يصنع وطناً لا تهزه العواصف.

تضرعاتي بحسن الخلاص، وميرغني/ العميق.

بقلم : د. عبد العظيم ميرغني

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى