مقالات

من الفكرة إلى المؤسسة: مسيرة تأسيس تعليم الغابات الجامعي في السودان

بقلم د. عبد العظيم ميرغني

من الفكرة إلى المؤسسة: مسيرة تأسيس تعليم الغابات الجامعي في السودان

• منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، بدأت تتبلور في السودان فكرة تأسيس تعليم جامعي متخصص في علوم الغابات.

• غير أن الطريق نحو تحقيق ذلك كان طويلاً ومليئاً بالتحديات المؤسسية والنقاشات الفكرية.

• صادف عام التحاقنا بالكلية الإعلان عن إنشاء شعبة جديدة باسم شعبة علوم الغابات، وقد فُتح باب التقديم للراغبين في الالتحاق بها من بين الطلاب الذين انضموا للكلية في ذلك العام.

• جاءت هذه الخطوة متأخرة نحو 16 عاماً، إذ تعود فكرة إنشاء كلية للغابات في السودان إلى عام 1958، حين طُرحت لأول مرة كحاجة ملحّة لتأهيل الكوادر الوطنية في هذا المجال الحيوي.

• وفي عام 1964، شهدت الساحة الأكاديمية مساجلات ساخنة بين مدير مصلحة الغابات آنذاك، الدكتور كامل شوقي، وعميد كلية الزراعة، البروفيسور محمد عبد الله نور، حول جدوى وأهمية إنشاء كلية مستقلة للغابات.

• ما يعكس حجم الجدل الذي أحاط بهذه الفكرة قبل أن ترى النور على شكل شعبة داخل الكلية بعد أكثر من عقد.

• تركّز الخلاف بين الطرفين حول الشكل المؤسسي للتخصص: فقد رأى الدكتور كامل شوقي أن تقوم كلية مستقلة للغابات، كاملة الدسم، وتندرج مباشرة تحت مظلة جامعة الخرطوم.

• بينما ذهب البروفيسور محمد عبد الله نور إلى أن الأفضل هو إنشاء شعبة للغابات ضمن كلية الزراعة، مع الاكتفاء بتغيير الاسم إلى كلية الزراعة والغابات، دون الحاجة إلى فصل إداري أو أكاديمي كامل.

• تباينت مواقف العملاقين – كامل شوقي ومحمد عبد الله نور – لتتجاوز أروقة المكاتبات الرسمية إلى العلن، حيث بلغت ذروتها عبر بيانات وتصريحات متبادلة نُشرت في صحيفتي الأيام والسودان الجديد.

• وتدخل في الأمر مدير الجامعة آنذاك، البروفيسور النذير دفع الله، بعد أن احتكم إليه مدير مصلحة الغابات بخطاب مؤرخ في 29 أغسطس 1964، عدّد فيه الأسباب التي يرى أنها تبرر قيام كلية مستقلة للغابات، لا مجرد شعبة تابعة لكلية الزراعة.

• من بين الأسباب التي ساقها الدكتور كامل شوقي في خطابه، أن قيام كلية مستقلة للغابات يتماشى مع المكانة الأدبية والمهنية التي تستحقها مهنة الغابات، ويسهم في جذب نوعية متميزة من الطلاب، لا أن تكون الغابات مجرد خيار ثانٍ أو ملاذ لفاقدي الرغبة في تخصصات أخرى.

• كما أشار إلى أن استقلال الكلية من شأنه أن يمنحها وضعاً مؤسسياً قوياً، ويوفر لها مناخاً من الحرية والإمكانات الأكاديمية والعملية التي تتيح لها الوصول إلى مستوى علمي رفيع، يمكّن خريجيها من منافسة نظرائهم في الجامعات العالمية.

• من بين الحجج التي دعم بها الدكتور كامل شوقي دعوته أيضاً، أن قيام كلية مستقلة للغابات من شأنه أن يعزز فرص حصولها على الدعم المادي والمعنوي من الأمم المتحدة والجهات الدولية، دون أن يترتب على ذلك بالضرورة زيادة في التكاليف التشغيلية.

• كما رأى أن هذا التوجّه ينسجم تماماً مع سياسة الحكومة التي كانت آنذاك المخدّم الرئيسي لخريجي الغابات، خاصة بعد أن فصلت الغابات عن الزراعة، وأنشأت لها مصلحة قائمة بذاتها، تتمتع بالاستقلال الفني والإداري والمالي.

• وأخيراً، وبعد تلك السجالات الساخنة التي شهدها شهرا أغسطس وسبتمبر من عام 1964، والتي سبقتها سلسلة من الخطابات والمطالبات التي بعث بها مدير مصلحة الغابات خلال الأعوام 1961، 1962، 1963، و1964، تحقق أول اختراق عملي في هذا المسار.

• بإنشاء أول شعبة للتعليم الجامعي في مجال الغابات على مستوى البكالوريوس (مرتبة الشرف بنظام الخمس سنوات) في السودان، وذلك داخل كلية الزراعة بجامعة الخرطوم في العام 1974.

• وجاء هذا الإنجاز ثمرة لجهود متراكمة، ودعم مشترك من الأمم المتحدة ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، بالتعاون مع حكومة جمهورية ألمانيا الشرقية، في خطوة مثّلت بداية حقيقية لتأصيل التعليم الجامعي في مجال الغابات بالسودان.

• رغم التردد الذي واجه بعض الطلاب، التحق عشرون طالباً – بينهم طالبتان – بشعبة الغابات عند تأسيسها، ثم استُوعب عشرون آخرون من طلاب السنة الثانية، ليشكلوا معاً أول دفعتين للشعبة.

• أما على المستوى الشخصي، فقد ارتبطت نشأة الشعبة بمنعطف لا يُنسى في مسيرتي بعد أن التحقتُ ضمن العشرين طالباً الذين شكّلوا الدفعة الأولى لشعبة الغابات الوليدة، إلى جانب عشرين آخرين تم استيعابهم من طلاب السنة الثانية.

• كانت تلك اللحظة مفصلية في حياتي، ليس فقط لأنها ارتبطت بنشأة الشعبة، بل لما حفّ بها من مصادفات متلاحقة: فقد صادف” التحاقي بكلية الزراعة قيام شعبة الغابات بالكلية، عودة ابن عمنا الدكتور كامل إبراهيم حسن – رحمه الله – من بعثته الدراسية، والتحاقه بشعبة الاقتصاد الزراعي. فشجّعني على اختيار هذا التخصص الجديد.

• رغم أن القرار جاء في لحظة بدا فيها التخصص جديداً وغامضاً، إلا أنني شعرت بانجذاب غريب نحوه، كأن شيئاً في داخلي كان يخبرني بأن هذه هي الوجهة التي تُشبهني، وأنني إن اخترتها فلن أندم.

• وهكذا، كان قراري بدراسة علوم الغابات نقطة تحوّل أساسية، مهنياً واجتماعياً. ولعل من أجمل ثمار هذا المنعطف أنني التقيت بـ”هدى”، رفيقة العمر، التي جمعتني بها المصادفة، فغدت من ذلك اليوم جزءاً لا يتجزأ من مساري.

• هكذا تمضي الحياة بمصادفاتها التي لا ننتبه لأثرها إلا بعد حين، حين نلتفت فنجد أنها شكّلت مسارنا كله.

• ومع مرور الأعوام، أخذت أعداد خريجي الشعبة في التزايد، جيلاً بعد جيل، حتى باتوا حضوراً فاعلاً في مختلف مجالات العمل البيئي والمهني، داخل السودان وخارجه.

• فقد انتشروا في المؤسسات الحكومية، والمنظمات الدولية، والهيئات البحثية، وأسهموا في إدارة الغابات والمحميات والمشاريع التنموية، كما نشط كثيرون منهم في العمل الطوعي والمجتمعي، مدفوعين بروح الانتماء للتخصص والإيمان بدوره الحيوي.

• وهكذا، لم تعد الشعبة مجرد كيان أكاديمي ناشئ، بل غدت رافداً أساسياً في بناء القدرات الوطنية في مجالات الغابات والموارد الطبيعية.

• كانت بداية تأسيس الشعبة متواضعة للغاية من حيث الإمكانيات، إذ بدأ عمل الشعبة بأستاذين فقط، أحدهما منتدب من منظمة الفاو. هما مانفريد لوشاو الألماني الشرقي والدكتور مجمد أحمد الرشيد، أول من حاز على شهادة دكتوراه في مجال الغابات بالسودان.

• استمرت شعبة الغابات لمدة 18 عاماً، ارتفع خلالها عدد الأساتذة إلى 14 أستاذاً متخصصاً في مختلف مجالات علوم الغابات، حتى العام 1993 حين تم ترفيعها إلى كلية متكاملة، تحقيقاً لحلم مدير الغابات الراحل أبو الغابات كامل شوقي.

• ومع ذلك، لم يُعتمد المقترح بتعديل الاسم إلى “كلية الزراعة والغابات”، وظل الاسم على حاله.

• ومنذ ذلك الحين، شهد تعليم الغابات الجامعي توسعاً ملحوظاً، إذ توجد حالياً في السودان ثماني وحدات أكاديمية — إما كليات أو أقسام مستقلة — تُعنى بالغابات أو الموارد الطبيعية، موزعة على الجامعات الحكومية.

• كما تنتشر في مجال مكافحة التصحر وتدهور الأراضي ما يقارب 12 معهداً متخصصاً. يعكس تنامي الاهتمام بالقضايا البيئية على المستويين الأكاديمي والبحثي.

• وقد أسهم هذا التوسع، إلى جانب التغطيات الإعلامية المتنوعة، في تعزيز الوعي المجتمعي والقومي بأهمية الغابات، حتى انعكس ذلك في البرامج الانتخابية ومبادرات التشجير الطموحة.

• وهكذا، لم يكن تأسيس تعليم الغابات في السودان مجرد قرار أكاديمي، بل ثمرة نضال مؤسسي وفكري طويل، ساهم فيه علماء ومسؤولون وطلاب، لتصبح الغابات اليوم حاضرة في الوعي الجامعي والوطني بقوة متزايدة.

آمالي في حسن الخلاص؛ وتحياتي.

 

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى