مقالات

 الخرطوم بين بصمة الإنجليز وفوضى التوسع: من التوازن إلى التهميش

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

 الخرطوم بين بصمة الإنجليز وفوضى التوسع: من التوازن إلى التهميش

“التخطيط لا يُقاس بعدد المخططات، بل بمدى انسجام المدينة مع الإنسان واحتياجاته.”

🌍 مدخل إنساني: من حلم لندن إلى واقع الخرطوم

ما من سوداني طلب التخصص أو ابتعث للدراسة إلا وكانت لندن – عاصمة الضباب – حُلمه الأول ومقصد خياله. يقال دومًا إن “صرتنا مقطوعة في لندن”، كناية عن عمق الارتباط، لا بالبلد فحسب، بل بفكرة التنظيم والانضباط والتخطيط الذي يخدم الإنسان لا العكس.

هناك، في بريطانيا، يرى الطالب السوداني بعينيه كيف يُبنى كل شيء حول الإنسان:

السكن قريب من مكان العمل،

المدارس محاطة بالخدمات،

المدن تُدار وكأنها كائن حيٌّ يتنفس احتياجات الناس.

ثم يعود إلى الخرطوم… فلا يجد من ذلك إلا الأطلال.

مدينة تتسع بلا قلب، تتطور بلا خطة، وتُنهك الإنسان بدلًا من أن تخدمه.

يبدأ يومه فجرًا بحثًا عن وسيلة نقل، ويصل إلى عمله منهكًا، تفكيره ليس في الإنجاز، بل في العودة.

ما بين عاصمة الضباب وعاصمة الطمي، ضاعت فكرة الإنسان كمركز للتخطيط، وتحوّلت التنمية إلى جغرافيا من الفوضى. اعتراف حضري: حين خطّط الإنجليز الخرطوم، زرعوا بذور التنمية المتوازنة قبل أن تُصبح مصطلحًا أكاديميًا. لم يبنوا مؤسسات معزولة، بل صاغوا مدينة مترابطة وظيفيًا الفلسفة بسيطة وعميقة: لا تنمية دون توازن بين السكن والخدمة والعمل والحركة.

الخرطوم آنذاك كانت تُحاكي المدن العالمية: ترماي يربط الأحياء، صرف صحي فعّال، بنية تحتية تُراعي الإنسان والموقع، وعدالة عمرانية متزنة. لكن التدهور بدأ لحظة أن اختلت هذه المعادلة.

تمددت المدينة بلا بنية حاكمة أو تخطيط استراتيجي.

وبرز ما يُعرف بـ”السكن العشوائي” ليس كتعدٍ، بل كنتيجة مباشرة لفشل الدولة في استباق الطلب بالخدمة.

ومع الزمن، انفصلت الخرطوم عن بقية السودان، حتى بات الناس يتداولون بمرارة مصطلح “حكومة الخرطوم” وليس حكومة السودان”، تعبيرًا عن مركزية مشوّهة تستنزف الموارد دون توزيع عادل أو رؤية قومية.

الخرطوم التي كانت تُعرف بمدينة النيلين، والعاصمة المثلثة ذات التوازن، أصبحت في نظر الكثيرين “مدينة ريٍّ بلا ماء”، أو عاصمة مكتظة تفقد يوميًا ملامحها الحضرية الأصلية.

🔷 🔷 ما بين بصمة الماضي وضياع المستقبل

الإنجليز بنوا الخرطوم على مبدأ التوازن لا الفخر العمراني.

التوسع غير المدروس دمّر منظومة التنمية، وخلق هوة بين النمو الحضري والخدمات.

🔷 حين خطّط الإنجليز الخرطوم… كانت التنمية تبدأ من التوازن لا من الأبراج

ليس في الأمر حنين استعماري، بل اعتراف حضري وقراءة واقعية للتاريخ: حين خطّط الإنجليز الخرطوم، أسّسوا لفكرة التنمية المتوازنة بوعي عميق بالوظيفة، والعدالة المكانية، وتكامل عناصر الحياة.

فكل مؤسسة كانت محاطة بما يكمّلها:

مركز الشرطة تحفّه “الأشلاق”،

المدرسة بجوارها سكن المعلمين والميز،

مشروع الجزيرة تتوسطه سُرَيّات الإداريين.

كان الهدف بسيطًا وعميقًا:

أن يعيش الإنسان حيث يعمل، ويوفَّر له الوقت والجهد، ويُحترم كعامل منتِج لا مجرد رقم وظيفي.

أما اليوم، فإن موظف الدولة يصل إلى عمله من أطراف المدينة بعد ساعات في الترحيل أو المواصلات، وقد تصل الرحلة الواحدة إلى ثلاث ساعات أو أكثر. يصل إلى مكتبه منهكًا، لا يفكر في الأداء بل في العودة.

إنه هدر مزدوج: للوقت، للطاقة، وللقيمة الإنتاجية للعامل.

🔷 التوسع العشوائي: من حي العمارات إلى الخرطوم المهمَّشة

بدأ الانهيار الحضري المنهجي عند إطلاق مشروع حي العمارات كمبادرة تطوير عقاري، لكنه خرج من السياق التخطيطي المتوازن. تبعه التوسع في إسكان الصحافة، الذي لم يُربط بالخدمات الأساسية: لا مياه، لا طرق، لا مدارس كافية، ولا مستشفيات ولا شبكة مواصلات متكاملة.

نتج عن ذلك:

تمدد عمراني منفصل عن البنية التحتية.

تصاعد الحاجة للخدمات في أحياء لم تُخطط لتكون مأهولة أصلًا.

ازدهار العشوائيات كاستجابة عفوية لحاجة الناس للسكن.

النتيجة؟

مدينة تنهك نفسها في تعويض العجز، وتلاحق أزماتها بدلًا من أن تستبقها بتخطيط رشيد. ومع الوقت، أصبحت الخرطوم مركزًا فوضويًا، يتضخم على حساب بقية السودان، حتى بات يُقال:

“هذه حكومة الخرطوم… لا حكومة السودان.”

🔷 العامل في قلب المعادلة

التخطيط الذي لا يضع العامل في المركز، ليس تخطيطًا، بل هندسة مجرّدة.

الإنجليز جعلوا السكن حول العمل.

واليوم، العامل يستهلك نصف يومه في المواصلات، ويعيش انفصالًا مكانيًا عن مؤسسته، واغترابًا حضريًا عن المدينة نفسها.

انخفضت الإنتاجية، وتآكل الانتماء، وضعُف الأداء.

✅  الخرطوم لا تحتاج إلى عمارات جديدة، بل إلى عودة فلسفة التوازن:

أن يُخطط لكل حي حسب وظيفته،

وأن يُخدم كل سكن قبل أن يُمنح،

وأن يُعاد توزيع العمران والخدمات بثقافة العدالة، لا ثقافة الامتداد العشوائي.

 

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى