مقالات

دمج وزارة الري: قرار غير موفق في ظرف استثنائي

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

دمج وزارة الري: قرار غير موفق في ظرف استثنائي

يمر السودان بمرحلة حرجة نتيجة ما بعد الحرب حاليًا، ما يستدعي تضافر الجهود الوطنية لإعادة بناء الدولة واستدامة مؤسساتها الخدمية الحيوية. وتُعد وزارة الري والموارد المائية من أبرز هذه المؤسسات، نظرًا لدورها المركزي في تأمين المياه للري والشرب، وتوليد الكهرباء، وضمان الأمن المائي الوطني.

وفي هذا السياق، فإن قرار دمج وزارة الري في وزارتي الزراعة (الري) والبيئة والاستدامة (الموارد المائية) قد يبدو من الناحية الشكلية إعادة هيكلة إدارية، لكنه من حيث الأثر الفني والتنظيمي يمثل مخاطرة استراتيجية في ظرف لا يحتمل التجريب.

فمن الناحية المؤسسية، تُعد وزارة الري إحدى أكثر الوزارات امتدادًا من حيث البنية والاختصاصات والكوادر، وهي تدير شبكات ضخمة تمتد من دلتا طوكر إلى دنقلا، وتشرف على ستة خزانات كبرى وأربعة مشاريع مروية رئيسية. أي تفكيك لهذه المنظومة دون دراسات متأنية وفي بيئة مستقرة يُنذر بخلل إداري وفني، وهو ما أثبتته تجارب سابقة خلال عهود متعاقبة، حين تم تجزئة مهام الري أو نقل تبعية الخزانات إلى وزارات أخرى، وكانت النتيجة ضعف التنسيق وتعطل بعض الخدمات الحيوية.

أما من الناحية الفنية، فإن منظومة الري في السودان مترابطة بدقة: من مراقبة الوارد المائي بمحطة الديم، إلى التخزين بخزان الروصيرص، ثم التوزيع عبر خزان سنار إلى المشاريع الزراعية، وهي منظومة لا تتحمل التشتت بين وزارات. الانسجام بين التوليد الكهربائي، وتوزيع المياه للري، وإمداد محطات الشرب، يتطلب إدارة موحدة ذات قدرة على التفاعل مع التحولات الطارئة.

ومما يزيد من حساسية هذا الملف، أن العالم يقترب من مرحلة “حروب المياه”، لا سيما في حوض النيل الذي يشهد تجاذبات معقدة حول إدارة الموارد المائية، ومشروعات السدود العابرة للحدود، ما يجعل من وزارة الري ليس فقط جهة خدمية، بل مؤسسة سيادية تمثل الخط الدفاعي الأول في حماية الأمن المائي والسيادة الوطنية. أي مساس بوحدة الوزارة أو بفاعليتها قد يُضعف موقف السودان في التفاوض حول قضاياه المصيرية، خصوصًا مع استمرار تعقيدات ملف سد النهضة.

التجارب العالمية أيضًا تدعم هذا المنظور: فمصر، إثيوبيا، ودول أخرى في حوض النيل تحافظ على وزارة موحدة للري والمياه. ليس تقليدًا إداريًا، بل ضرورة فنية وتنموية وأمنية.

وقد سألت الباحث البريطاني إدوارد هايوود، المتخصص في الحوكمة المؤسسية والتنمية في مناطق النزاع، عن هذا التوجه حيث جمعني به لقاء غير رسمي في العاصمة التركية أنقرة، حين رافقت ابنتي الكبرى التي احب ان اناديها في كثير من الأحيان ب 🙁 ست البنات) لحضور برنامج لغوي بجامعة أنقرة استضافته إحدى الأسر المحلية ضمن برنامج التبادل الثقافي مع وفد بريطاني. أبدى هايوود استغرابه من طرح فكرة الدمج في مثل هذا التوقيت، مؤكدًا أن “الحوكمة الرشيدة لا تعني التقليل من عدد المؤسسات الحيوية، بل الحفاظ على استقلالها وتحسين أدائها، خصوصًا في الدول الخارجة من الأزمات”.

كما أشار إلى أن ما يميز الدولة الفاعلة هو إدراكها للفصل بين الإصلاح الإداري والتفكيك العشوائي، وأن دمج قطاع خدمي حيوي كوزارة الري دون مسار انتقالي مدروس يُقوّض الاستقرار المؤسسي.

وعليه، فإن الحوكمة المؤسسية – كأداة لضمان تنفيذ الاستراتيجيات – تفرض ضرورة الحفاظ على وحدة وزارة الري، وربطها مباشرة بمجلس الوزراء ضمن آلية إشراف استراتيجية. إذ لا يمكن تحقيق التنمية أو جذب تمويلات دولية لإعادة الإعمار ما لم تكن الدولة قادرة على إثبات امتلاكها لمؤسسات قوية وموحدة وقابلة للمساءلة.

إننا في أمس الحاجة الآن إلى مؤسسات استراتيجية لا مرتجلة، قادرة على التعامل مع التحديات الفنية، ومخاطر تغير المناخ، والتحولات الجيوسياسية، وتهديدات “حرب المياه” المقبلة. ولن يتحقق ذلك إلا بالحفاظ على وزارة الري والموارد المائية ككيان مستقل، متكامل، ذي اختصاص واضح، ومسؤولية موحدة.

والله ولي التوفيق

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى