مقالات

من المعرفة إلى الجدارة: نحو عقل استراتيجي قادر على الإبداع والتغيير

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

 

من المعرفة إلى الجدارة: نحو عقل استراتيجي قادر على الإبداع والتغيير

“لا تُقاس الخبرة بعدد السنين، بل بقدرتك على تحقيق الأثر بأقل تكلفة وأعلى جودة.”

🔷 مقدمة إنسانية – من بيت أمي إلى ميدان الجدارة

لم تكن أمي، آمنة يوسف عمر إبراهيم، تحمل شهادات عليا ولا خططًا مكتوبة، لكنها كانت تحمل قلبًا عظيمًا وعقلاً عمليًا فطريًا، زرع فينا أولى بذور الجدارة دون أن تنطق الكلمة. كانت توزع الوجبات وتُهيئ البيت للمذاكرة، تُشجّعنا بكلماتها البسيطة: “تعالوا يا سلام، دا شغل جميل حتى لو كان بسيط!”، ترفع معنوياتنا وتغمرنا بالثقة، وتقول: “تعالوا نعمل كذا مع بعض.”

بذلك كانت تمارس التربية بالمشاركة، والتحفيز بالإيجابية، والتخطيط العائلي دون أوراق، بل بروح الجماعة. رغم تعليمها البسيط، كانت تمثل أول نموذج للجدارة الفطرية والإدارة الداعمة. ومنها تعلمنا أن الجدارة لا تُختزل في معايير الأداء فقط، بل تبدأ من بيئة تشجّع، وعقل يقدّر، وقلب يؤمن.

🔷 مدخل استراتيجي

في زمن التحوّلات السريعة، لم تعد الشهادات ولا الأقدمية وحدها مؤشرات على الكفاءة، بل أصبح العطاء النوعي والقدرة على حل المشكلات بطرق مبتكرة هو المعيار الحقيقي للتفوق. ولأن كثيرًا من الإخفاقات المؤسسية لا ترتبط بضعف في الموارد، وإنما بسوء توظيف القدرات، بات من الضروري إعادة ضبط مفاهيم مثل المعرفة، المهارة، الجدارة، والخبرة العملية، وربطها بالتفكير الإبداعي والحلول الذكية، ضمن رؤية استراتيجية شاملة.

🔷 المعرفة: الجذر الأول لأي تطور

المعرفة هي الأساس النظري والمعلوماتي الذي يُمكّن الفرد من فهم المفاهيم والمبادئ في أي مجال.

لا قيمة للمعرفة المجردة إن لم تتحوّل إلى مهارة وسلوك منتج.

هي بوابة الوعي وليست غايته.

🔷 المهارة: تحويل المعرفة إلى تطبيق

المهارة تمثل القدرة العملية على تحويل المعرفة إلى أفعال وأداء ملموس.

تُكتسب من خلال التدريب والممارسة المنتظمة، وتُقاس بالكفاءة والقدرة على الإنجاز.

المهارة هي العنصر الوسيط بين التعلم والعمل.

🔷 الجدارة: الأداء وفق معايير متفق عليها

الجدارة تمثل الامتزاج الذكي بين المعرفة والمهارة، في سياق أداء فعال، منضبط بمعايير محددة.

يمكن تقييم الجدارة عبر أدوات قياس الأداء والتحقق من النتائج المحققة.

الجدارة هي ما يبحث عنه سوق العمل الحقيقي، وليس فقط المؤهلات الورقية.

🔷 الخبرة العملية: من التكرار إلى الإبداع

ليست الخبرة مجرد تراكم سنين أو تكرار مهام، بل القدرة على التعلم المستمر والتطوير والإبداع في المجال نفسه.

الخبرة الحقيقية تنتج حلولًا ذكية، وتُحدث قفزات نوعية في الأداء المؤسسي.

لهذا تُقاس أجور “الخبراء” بالنتائج، لا بالساعات أو الأيام.

🔷 التفكير خارج الصندوق والحلول الذكية: أدوات المستقبل

التفكير خارج الصندوق يعني كسر النماذج التقليدية، والنظر إلى المشكلات من زوايا غير مألوفة.

أما الحلول الذكية فهي تلك التي تحقق أهدافًا كبيرة بأدوات مرنة وموارد محدودة.

الجمع بين الفكر الإبداعي والتحليل العملي هو ما يصنع القادة والمؤسسات الناجحة.

🔷 نموذج مقترح لتكامل المفاهيم: المعرفة → المهارة → الجدارة → الخبرة → الإبداع

كل مرحلة تبني على التي تسبقها، لكن لا يمكن اختصار الطريق، فالتميّز لا يُولد صدفة، بل يُصنع بتراكم واعٍ واستثمار ذكي في الذات والمؤسسة.

🔷 في سياق التنمية المستدامة والاستراتيجية ربع القرنية، يصبح بناء العقول قبل البنى التحتية ضرورة وطنية. علينا أن نُعلي من قيمة الخبرة النوعية، والتفكير الإبداعي، والمخرجات الذكية، بعيدًا عن الألقاب التقليدية والانبهار الزائف بالشهادات.

فمن أوتي الجدارة والخبرة والتفكير الابتكاري، فقد أوتي خيرًا كثيرًا.

 

يقين برس

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى