رؤية استراتيجية متكاملة لإعادة تخطيط الخرطوم والنهوض العمراني المتوازن
بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

رؤية استراتيجية متكاملة لإعادة تخطيط الخرطوم والنهوض العمراني المتوازن
🔷 مدخل علمي استراتيجي
إن إنشاء المشروعات الكبرى – كمطار دولي جديد – لا يُقاس بمدى اكتمال تصاميمه الهندسية فحسب، بل بقدر ما يُدمج في رؤية شاملة تمزج بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية والقانونية والدبلوماسية. فالمطار ليس مجرد مبنى، بل هو بوابة اقتصادية وحضارية، وركيزة في إعادة تشكيل المشهد العمراني والاقتصادي للدولة.
دراسة المهندس أبوبكر حول مطار الخرطوم الجديد، رغم ما تحويه من تفاصيل فنية دقيقة، تمثل جهدًا مقدرًا في حدود الإطار الهندسي والفني، لكنها افتقدت إلى منهجية التحليل متعدد القطاعات، مما جعلها أقرب إلى الطموح الفردي منها إلى المشروع الوطني المرتبط بأولويات التنمية والاستراتيجية الواقعية.
🔹 من الرؤية العمرانية إلى التنمية المتوازنة
لا يكفي أن تقتصر دراسات الجدوى على التكلفة والجدوى المالية، رغم أهميتها، بل ينبغي أن تأتي في إطار رؤية وطنية متكاملة تشمل البعد الاقتصادي والاجتماعي، وتعزز الإصلاح المؤسسي، وتلتزم بضوابط التخطيط الحضري، وتستوعب أثر القرارات على الأمن القومي.
الرؤية المقترحة لتطوير الخرطوم كعاصمة سياحية تستوجب إنشاء أسواق راقية بمواصفات عالمية، وتطوير منطقة توتي وشارع النيل والفنادق الكبرى، لتتحول هذه المساحات إلى مراكز جذب سياحي وثقافي، مع تحسين البيئة الحضرية وتجميل الواجهة النيلية.
🔹 التحدي الأكبر: فك التمركز
إن استمرار التمركز السكاني والخدمي حول الخرطوم يهدد العدالة التنموية ويعمق الاختلالات الجغرافية. ولذا، فإن أي خطة لإعادة تخطيط الخرطوم يجب أن ترتكز على:
1. تفكيك ظاهرة التريف والعشوائيات عبر برامج إسكان حضري منظم.
2. توزيع الخدمات والبنية التحتية على أقاليم السودان كافة.
3. إصلاح التعليم العالي بحصر الجامعات البحثية القومية الكبرى في العاصمة المثلثة، وهي: جامعة الخرطوم – الخرطوم، جامعة أم درمان الإسلامية – أم درمان، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا – بحري، مع توزيع بقية الجامعات الحكومية وكافة الجامعات والكليات الخاصة على ولايات السودان وفق تخصصات مرتبطة بمواردها واحتياجاتها، بما يخفف الضغط عن العاصمة ويحوّل الجامعات إلى محركات لتنمية الأقاليم.
4. إنشاء مدن صناعية خارج العاصمة وتوزيع النشاط الاقتصادي بما يحقق التوازن الجغرافي.
5. وضع رؤية مستقبلية لعاصمة إدارية ليست بديلة عن الخرطوم، ولكن في منطقة مناسبة تسع الوزارات كافة في نطاق واحد، مربوط بسكن وخدمات، مما يحقق كفاءة إدارية ويخفف الضغط عن العاصمة الحالية.
🔹 مطار الخرطوم الجديد: موقع ورؤية مستقبلية
يُفضل نقل المطار إلى خارج النطاق السكاني، مثل منطقة الجيلي أو قرى قريبة منها، مع ربطه بشبكة مواصلات سريعة، وتبني تصميم قابل للتوسع المستقبلي. يمكن تشغيله مبدئيًا بصالتين، مع الالتزام بالمواصفات العالمية، واعتماد نظام تمويل مبدع لا يرهق الاقتصاد الوطني، مع دراسة الخيارات الأربعة المتاحة حاليًا واختيار الأنسب من منظور استراتيجي طويل المدى.
🔹 البعد الأمني والاجتماعي
شكل الخرطوم الحالي ليس فقط عائقًا للتنمية، بل يمثل أيضًا ملفًا مرتبطًا بالأمن القومي، إذ يتركز فيه النشاط الاقتصادي والسكان بصورة تجعل أي أزمة تضرب العاصمة شللاً للدولة كلها. لذا، فإن تخفيف التمركز العمراني أصبح مسألة أمنية بقدر ما هو مطلب تنموي.
🔹 التحدي المؤسسي: مقاومة التغيير
دائمًا ما يواجه أي مشروع إصلاحي مقاومة من فئات تتذرع بضعف الإمكانيات، دون تقديم حلول عملية، مما يجعل تنفيذ الاستراتيجيات أمرًا شبه مستحيل. تجاوز هذه الذهنية يتطلب إرادة سياسية واضحة، وآليات تنفيذية مرنة، وتواصلًا مجتمعيًا يوضح المكاسب طويلة المدى.
هذه الرؤية تضع إعادة تخطيط الخرطوم في إطار مشروع وطني شامل، يربط بين العمران والاقتصاد والأمن القومي، ويؤسس لتنمية متوازنة تخرج العاصمة من عبء المركزية المفرطة، وتفتح آفاقًا جديدة للاستثمار والسياحة والصناعة.