
صفير الريح وصرير الباب القديم: صمتٌ مطبق بلا حركة
لم يكن “إياد” يتوقع أن تعود به الطريق إلى بيت أمه في ذلك اليوم الذي بدا كأنه مفصول عن الزمن. كان يحمل في جيبه جهازين من الهواتف، يلمعان بنور غريب، واحد منهما يعرف أنه يخصه، والآخر لا يتذكّر متى حصل عليه ولا كيف. كانت الريح تعزف حوله صفيرًا خافتًا، وكأنها تنبّهُه إلى أن العالم سيتغير بمجرد أن يطرق ذلك الباب القديم.
حين وصل إلى المنزل، وجده مفتوحًا كما لو كان ينتظره منذ زمن طويل. دخل فاستقبله دفء لم يشعر به منذ سنوات، ووجد أمَّه “حياة” تجلس في منتصف الصالة بوجهها المضيء، تحيط بها شقيقتاه في ضحكات خفيفة تُشبه أنغام المطر. كان بينهنّ انسجامٌ يرقق القلب، كأن المكان كله يعود إلى الحياة بمجرد وجودهن.
لكن في الجهة الأخرى من الصالة، جلس أفراد أسرة أخيه في صمتٍ شديد، بلا حركة، بلا كلمة، كأنهم محجوبون عن الحياة بطبقة رقيقة من الظلال. لم يلتفتوا إليه، ولم يتبدّل في ملامحهم شيء. كان وجودهم أقرب إلى انعكاس في مرآة غير مصقولة منه إلى حضورٍ بشري.
جلس إياد بالقرب من أمه، وهو يشعر أن شيئًا ثقيلًا يقف خلفه في العتمة، شيء لا يراه لكنه يتنفس قرب عنقه. أخرج أحد هواتفه محاولًا إعطائه لأمه لتكون أقرب إليه، لكن قبل أن يتحدث، أخرجت له ببطء هاتفًا آخر… هاتفًا حديثًا لم ير مثله من قبل، زجاجه يشبه المرايا السوداء، وأزراره من ضوءٍ صافٍ. قالت إن شقيقتهما التي تعيش خارج البلاد هي التي أهدتها إياه.
وقبل أن يكمل دهشته، بدأ الهاتف الذي يحمله يهتزّ بعنف، ورسائل تظهر على الشاشة وتختفي قبل أن يقرأها. كل رسالة تُرسل تلقائيًا إلى أخيه… رغم أنه لم يكتب حرفًا واحدًا. أحس بتوتر يسري في أطرافه، كأن هناك مَن يستخدم الهاتف من عالم آخر.
ثم جاء الهدير… كان صوتًا يشبه صرير بابٍ قديم يُفتح من تلقاء نفسه.
التفت إياد، فرأى أخاه “محجوب” واقفًا خلفه، يحمل الهاتف الثاني… ذاك الهاتف الذي كان إياد يبحث عنه منذ فترة. لكن عيني محجوب لم تعودا مثل عيني البشر؛ كانتا زجاجيتين، نصفهما مطفأ، وكأن ظلالًا تسكن داخلهما.
قال بصوتٍ بطيء يشبه خشخشة مفاتيح صدئة:
“هذا الجهاز لا يخصّك وحدك… إنه مفتاح، وسيُفتح الباب اليوم.”
وفجأة انطفأت الأنوار.
وتحوّل البيت كله إلى صمتٍ مطبق بلا حركة.
كانت الريح تعصف حول الجدران، وصفيرها يدخل من الشقوق كرسائل تحاول التحذير من شيءٍ قادم.
تحرّك إياد بين الظلال محاولًا فهم ما يحدث، لكنه رأى أفراد أسرة محجوب يلتفتون ببطء… حركاتهم غير بشرية، أقرب إلى تحريك دمى قديمة. أمّا أمه وشقيقتاه فكنّ محاطات بهالة ضوءٍ خافت، كأنهن محميات من قوة لا تُرى.
وبين تلك العتمة، ظهرت “لمار”… غريبة عن البيت، لكنها الوحيدة التي رآها بوضوح. فتاة تعمل في تحليل الإشارات والتواصل، تمتلك قدرة غير مألوفة على سماع ما لا يُسمع. عيناها تلتقطان الرسائل الخفية التي تتحرك بين الأجهزة والهواء.
قالت له بصوت خافت:
“باب هذا البيت ليس بابًا فقط… إنه فاصل. والجهاز الثاني هو الثغرة التي تسلّل منها الظلّ. إذا أغلقنا الثغرة… يعود كل شيء.”
كان عليه أن يواجه “حارس الباب القديم”، الكيان الذي سكن الظلال واستولى على هاتفه الثاني ليستدرجه ويمتصّ صراعات الأسرة وأوجاعها المكبوتة.
تقدّم إياد نحو الظلام الذي تمدّد كدخانٍ ثقيل، والهواتف تهتز في يديه كنبضٍ مزدوج.
كانت لمار على مقربة منه، تحمل نورًا صغيرًا يصدر من جهازها الخاص، يصدّ الظلّ كلما اقترب منهما.
خاضا معًا عبور الممرات التي تحولت إلى متاهة، وتخطيا الأبواب التي تصدر صريرًا يشبه أنينًا قديمًا. وفي النهاية، واجها حارس الباب، ذاك الذي كان يتغذى على صراعات الأسرة وصمتها، ويخفيهم في طبقات من السكون.
رفع إياد الهاتفين معًا، فتداخل نورهما في شعاع واحد…
تشقق الظل…
وانفتح فجأة منفذ من الضوء أعاد البيت إلى هيئته الطبيعية.
تلاشى الصمت، وعادت الأصوات.
وعاد محجوب ومن معه بشرًا كاملين، بعد أن فُكّت عنهم طبقة الظلال.
عادت الحياة إلى المكان، وعاد الفرح إلى العائلة، وأصبح البيت مُضيئًا كما لم يكن منذ زمن طويل.
وحين خمد كل شيء، التفت إياد نحو لمار…
وجدها تنظر إليه كمن شاركه عبور عالمين.
كان بينهما شيء لم يعد بحاجة لشرح.
شيء يشبه وعدًا ولد من قلب العتمة وتحول إلى نور.
ومع الأيام تكاملت حكايتهما…
وتحوّل التعاون والخطر والخوف المشترك إلى رابطٍ عميق.
وتوّجت الرحلة بزفافهما—
بعد أن صار البيت بيتًا حقيقيًا، لا بوابة إلى الظلال.
فكان الانفراج…
بعد صفير الريح…
وصرير الباب القديم…
والصمت المطبق الذي انكسر إلى فرحٍ كامل.






