مقالات

الفجوة بين الروح والجسد: مشروع حياة وأثر باقٍ

بقلم : د. محمد صلاح علي الفكي

الفجوة بين الروح والجسد: مشروع حياة وأثر باقٍ

الفجوة التي تُنشئ مشروع العمر

إن الفجوة بين الروح والجسد ليست مسافة غيبية فحسب، بل هي المساحة التي تتشكل فيها هوية الإنسان ومشروع حياته. فالروح بطبيعتها متطلعة إلى معاني الخير، بينما الجسد خاضع لقوانين المادة والزمن. وبين هذين القطبين يولد “الاختبار”: أن يعيش الإنسان في عالم التراب وهو يحمل داخله نفخة من عالم النور.

وهذه الفجوة هي التي تجعل العمل الصالح ضرورة؛ لأنها الوسيلة الوحيدة التي تربط بين عالمين:

عالم مادي يفنى، وعالم روحي يبقى.

وبذلك يتحول العمر القصير إلى بناء ممتد، والغرس اليومي إلى أثر باقٍ بعد فراق الروح للجسد.

فالإنسان لا يُخلد بجسده، لكنه يخلّد بعمله، وبما يتركه من علم، وإحسان، وصلاح، وأثر في الناس وفي الأرض التي عُمِّرت باسمه.

الموت، في جوهره، ليس انطفاءً ميكانيكيًا لجسدٍ أنهكته الحياة، ولا هو مجرد حدثٍ عاطفي يهزّ القلوب؛ بل هو مرحلة انتقالية تكشف طبيعة العلاقة العميقة بين الروح والجسد—تلك الثنائية التي ظلّ الإنسان يفسّرها عبر الوحي والعلم والفلسفة.

وقد قدّم القرآن الكريم الموت على الحياة في قوله تعالى:

﴿ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾،

وهذا التقديم ليس مجرد أسلوب بلاغي، وإنما إشارة إلى حقيقة كونية عميقة: أن الموت هو الأصل، وأن الحياة هي الطارئ والاستثناء.

فالوجود المادي يبدأ من حالة سكون تام: بذرة جامدة، بويضة لا نبض فيها، بيضة لا تحمل أي قدرة على النمو. كلها مواد ميتة بالمعنى البيولوجي حتى يأتي التحوّل الأول: شرارة الحياة.

علم الأحياء يكشف لنا هذا بوضوح:

البذرة تبقى في “السكون الفيزيائي” حتى تتوفر شروط الإحياء.

البويضة لا تتحرك نحو الحياة إلا بعد دخول الحيوان المنوي وحدوث التخصيب.

البيضة لا تتطور ما لم تُفعَّل حرارتها الداخلية وتبدأ التفاعلات الجينية.

إن الأصل هو الجمود والخمول واللاوظيفية؛ ثم تأتي الحياة كاستثناء وجودي يفتح الباب أمام الوعي، والإدراك، والعمل، والاختبار. وعندما تغادر الروح يعود الجسد إلى وضعه الأول: السكون. وبين النفختين—دخول الروح وخروجها—يسير الإنسان رحلته القصيرة في عالم المادة.

هذه الحقيقة الكونية تمثل مفتاحًا لفهم الفجوة بين الروح والجسد، وتتماهى مع مسار الدراسة فيما يلي:

1. دخول الروح: بداية الفجوة الأولى بين الغيب والمادة

تقدّم التكنولوجيا الطبية اليوم تصويرًا دقيقًا لمراحل التكوين الأولى للجنين عبر الموجات فوق الصوتية (Ultrasound):

خلية ملقّحة Zygote

الانقسام المتسلسل Cleavage

التوتة Morula

الكيسة الأريمية Blastocyst

الانغراس في بطانة الرحم Implantation

تكوّن الأعضاء الأولية Organogenesis

وفي مرحلة محددة يبدأ النشاط الكهربائي العصبي للدماغ، ويبدأ تكوّن النبض، عند هذه النقطة يظهر الفرق بين “مادة تنمو” وبين “كائن حي واعٍ”، وهو الفارق الذي ظلّ العلم يرصده، بينما يظل جوهر “الروح” غير قابل للقياس أو الرصد.

يصف الحديث النبوي المراحل الأولى للجنين: نطفة، علقة، مضغة… ثم يُنفخ فيه الروح. وعند هذه اللحظة يتكوّن خطّ فاصل بين عالمين:

جسد يتشكل وفق قوانين بيولوجية.

روح تأتي من عالم الغيب، تمنح الجسد الهوية والمعنى والوعي.

هذا الدخول الغيبي هو لحظة الانتقال من “الموت الأصلي” للمادة إلى “الحياة”، وهو يفسّر لماذا ظلّ العلم عاجزًا عن فهم جوهر الروح، ولم يتمكن من رؤية شكلها أو حجمها، رغم التقدم الهائل في علم الأجنة وعلم الدماغ.

وقد جاء في القرآن الكريم أيضًا: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾، تأكيدًا على أن جوهرها لا يُدرَك إلا بأمر إلهي.

2. الجسد حامل للروح: اتساع الفجوة مع النمو والتجربة

كلما كبر الإنسان ازدادت الفجوة بين الجسد والروح ظهورًا:

الجسد يضعف ويشيخ.

الروح تبقى يقظة، متطلعة، تخاف وتأمل وتشتاق.

ولهذا شبّه علماء النفس الإنسان بالكائن اللاجئ بين عالمين: روح تنتسب إلى عالم علوي، وجسد محكوم بحدود المادة.

3. لحظات الاحتضار: ذروة الفجوة بين الروح والجسد

الطب يرصد علامات دقيقة: برودة الأطراف، تغير التنفس، تراجع الوظائف الحيوية، وكلها مظاهر لانطفاء الجسد، بينما الروح تتجه نحو لحظة الفراق.

الوحي يصف خروج الروح بلغة تكشف شدّة الحدث:

تخرج بسهولة عند المؤمن

تُنتزع عند الظالم

أما العلم، فلا يرى الروح لكنه يرى آثار مغادرتها. خروج الروح يحدث بشكل متكرر في كل لحظة موت لكنها لا تُرى بالعين المجردة ولا يمكن قياسها بالأدوات العلمية، ما يترك للروح عالمها الخاص الغيبي.

4. تجارب اقتراب الموت: الومضة التي يشعر فيها الإنسان بالفجوة

يصف أصحاب تجارب الاقتراب من الموت:

الخروج من الجسد

رؤية نور قوي

مقابلة أقارب رحلوا

يفسّر العلم بعضها باضطرابات دماغية، لكن تبقى تجارب لا تفسير لها، فتظل دليلاً على أن الروح ليست ظاهرة عصبية فقط.

5. فراق الروح للجسد: الانفصال النهائي

عند لحظة الموت:

يتوقف القلب

ينعدم التنفس

يفقد الدماغ قدرته

تفارق الروح الجسد

الطب يعلن “نهاية الوظائف الحيوية”، أما الدين فيعلن “انتقال الروح إلى البرزخ”. وهنا تنشق الفجوة بين الروح والجسد نهائيًا.

6. ما بعد الموت: وجود جديد بلا جسد

تبدأ الروح رحلة جديدة: سؤال، حساب، نعيم أو عذاب.

لا زمن مادي، ولا جسد، ولا حواس.

أما الجسد فيعود إلى أصله الترابي، ويبدأ في الاضمحلال.

7. الآثار الاجتماعية والاقتصادية والقانونية للموت

الموت ليس حدثًا فرديًا؛ بل له آثار واسعة:

تغير هيكل الأسرة

انتقال ممتلكات

آثار على سوق العمل

مسؤوليات قانونية

تكاليف صحية على الدولة

ومن هنا تأتي الحاجة إلى:

تشريعات واضحة

رعاية ملطفة

توثيق طبي دقيق

دعم للأسر

توصيات:

روحيًا: تعزيز العمل الصالح، الإحسان، ذكر الموت، وإعداد وصية واضحة.

صحيًا وإداريًا: كتابة وصايا طبية تحدد رغبات المريض في الإنعاش والرعاية، وحفظ المستندات والحقوق، إدارة الشؤون القانونية والمالية.

اجتماعيًا ونفسيًا: دعم المحتاجين والأسر بعد الفقد، بناء شبكات تكافل اجتماعي فعّالة، ونشر ثقافة الحوار حول الموت لتقليل الرهاب النفسي والاجتماعي باعتبار ان هناك رهبة وخوف لحظي ليس خوفًا عمليا ويكره الإنسان بطبيعته ذكر الموت ولا يألف الحديث عن فراق الروح للجسد.

الموت ليس انقطاعًا، بل عبور بين عالمين.

الحياة استثناء مؤقت؛ والموت هو الأصل.

الجسد يعود إلى الأرض، والروح تعود إلى عالمها الأول.

والحكمة ليست في الهرب من ذكر الموت، بل في تحويله إلى مشروع حياة يجعل للإنسان أثرًا يبقى بعد أن يفارق الجسد جسده، وتمضي روحه إلى مستقرها.

د. نوال خضر

صحيفة الكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى