لمتين يلازمك في هواك مر الشجن؟
ألا رحم الله حسين بازرعة وعثمان حسين، ارتقيا وماماتت ْمكارِمُهما…
لقد شكلا وجدان أجيال، ومافتئ نبعهما ينساب رقراق الأمواه كما سليل الفراديس…
في هذا العمل الفني النبيل تختلط المشاعر مابين الحبيبة والوطن بعد أن تطاولت سنوات الغربة بالشاعر عن مراتع طفولته وصباه، وإذا بالذكريات تحوم في سوح صحوه ومنامه كما الأطيار، يحلق معها بخياله وقد أرخى الليل سدوله في مدينة جدة التي يفصل بينها وبين بورتسودان بحر القلزم، فيسرج براقا ليسابق به البرق؛ صوب سودان أحبه طوال عمره المديد وماسلاه يوما إلى أن لقي ربه راضيا مرضيا…
وهو ذات الوطن الذي عشقه رفيق دربه صاحب مقص الألحان الذهبي عثمان حسين رحمهما الله.
اقتحمتني هذه الباذخة (شجن) فهيجت مني الأشجان، واستلبت مني مشاعري، واستدعت في خاطري عرائس ذكرياتي، وإذا بي أتوه في (غابات الكمنجات) وهي تبتدر المقدمة بلحن مستف بأحمال من الحزن النبيل، أحمال تنوء بها الكمنجات فتهب للناس انغامها متقطعة تخنقها العبرات، وكأني بها تهئ الناس لحوار أليم، حوار من محب مع قلبه المكلوم، وينطلق صوت راحلنا متهدجا ليقول:
لمتين… لمتين
لمتين… لمتين
انه تساؤل يشي بفقدان الأمل ومسعى لجلد الذات، وكأني بسليل وادي عبقر الألحان عثمان حسين يود -بتكراره لكلمة لمتين- تهيئة الوجدان للسؤال الكبير:
لمتين يلازمك في هواه مر الشجن؟
ثم يستدرك ويقول:
ويطول في أيامك سهر…ويطول عذاب!
إنها مناجاة لقلب استسلم لحزن سرمدي بعد أن أيقن بإيشاك ضياع الحبيب… والأسئلة يا أحباب احيانا لايكون القصد منها الحصول على اجابة، انها أسئلة التنفيس…
وتترى الاسئلة:
ياقلبي لو كانت محبتو بالتمن
يكفيك هدرت عمر
حرقت عليه شباب…
لكن هواهو أكبر وماكان لي تمن
والحسرة مابتنفع ومابيجدي العتاب…
أحسن تخليهو لليالي ولي الزمن
يمكن يحس ضميرو ويهديه للصواب.
وهنا…
يدع عثمان حسين الأوركسترا تكمل مشهد التبعثر والضياع الذي يعيشه الحبيب!…
يااااه
حقا لا أعلم كم عدد الكمنجات التي حشدها عثمان حسين لتخرج للناس كل هذا الكم من (المؤازرة) الموسيقية تماهيا مع السؤال الحزين…
موسقة تكاد تنطق بأحرف الكلمات… موسقة تحتشد بحزن نبيل يكابده صاحب القلب المنفطر…
ويسترسل الحبيب المستهام مستدركا ليقول:
لكني أخشى عليهو من غدر الليالي…
أخشى الأماني تشيب وعشنا يبقي خالي…
هو لسة في نضارة حسنو في عمر الدوالي…
ماحصل فارق عيوني لحظة او بارح خيالي…
أغفرلو يا حنين… وجاوز من ظلم
ما أصلها الأيام مظالم…
والعمر غمضة ثواني
وأصبر على جرحك وان طال الألم…
…
وتختلج الكمنجات كما الذبيح من الطيور لتهئ المسرح لفنان الشجن فيقول:
بي جراحنا
بي أشواقنا
بنضوي الزمان…
ويظل يرددها مرات… ومرات… ومرات…
ياااااه
ما أنبل وأجمل وأمتع واسمى هذه المشاعر، والكلمات والموسقة والأداء الخرافي يا أحباب…
لعمري انه توصيف لدواخل اهل هذا السودان الجميل الذين لاتغيرهم قساوة (من ظلم)…
وجدان لاتشوبه شائبة في نبل ردات فعله وان عظمت الأحداث…
وهنا…
يتبدل منحى الموسقة لتغسل عن الأنفس غبار الأحزان…
وتتساوق إليها سحائب التفاؤل الجميل وحسن الظن ليهطلا زخات زخات:
انا عارفو بكرة بيعود في رعشة ندم…
ننسي الحصل بيناتنا والسهر اللكان.
تصبح حياتنا نغم…
وعشنا يبتسم.
ومن يقرأ أشعار بازرعة يجده دوما لاينفك عن هذا التفاؤل وحسن الظن في خواتيم خالداته…
ويأتي بازرعة بخاتمة مفرحة بديعة،
خاتمة ينبري لها عبقري الموسقة والألحان ليفرد لها الشراع ويقول:
وتعود مراكب ريدنا…
لي بر الأمان.
adilassoom@gmail.com