أم اسمها آمنة
ألا رحم الله شاعر النيل حافظ ابراهيم وقد قال:
الأم مدرسة اذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق
لعمري إن الأم مدرسة بالفطرة…
قبل سنوات عديدة تلقيت رسالة من أسرتي تفيد بأن ابن جارتنا آمنة -وهو آخر العنقود- الأول على مدرسته وعلى ولاية الخرطوم بأسرها في امتحانات الشهادة الصغرى من مرحلة الأساس الى الثانوية…
آمنة لها من الصبايا أربعٌ يكبرن أسامة، ثلاثة منهن تخرجن في جامعة الخرطوم طبيبات، والرابعة لم تزل طالبة في كلية الطب بذات الجامعة…
آمنة زوج لسالم المُقعدٌ، الذي لا يقو على سير ولا وقوف -إلا بجهد جهيد- منذ أن رأت أعيننا النور، وقد جاوَرَنا في حي الميرغنية وقد امتهن فتل الحبال من زعف/سعف دوم الختمية والسوريبة في كسلا، وامتهنت آمنة ضفر البروش والطُباقة من ذات الزعف الذي يجمعه عم سالم من ضهاري كسلا على حمار له عرجاء…
تلك الإتان تستحق مني وقفة:
كم رأيتها بأم عينيّ تستلقي على الأرض كلما عَنّ لسالم الركوب عليها، ثم تنهض به واقفة!…
عندما تخرجت حورية -كبرى الصبايا- في جامعة الخرطوم طبيبة، تقدم لها طبيب ابن أسرة ثرية سكناهم عمارة تتوسط حي الرياض بالعاصمة الخرطوم، فاشترطت عليه بأن يأتِ لها بأسرتها من كسلا إلى الخرطوم، فما تأخر إبن الاصول في قبول ذلك، لكن أمها آمنة لم تقبل، فما كان من دكتورة حورية الاّ أن جاءت لوالدي رحمه الله -حيث كان دوما موئلاً لأسرتها كلما عنّت لهم مشورة- وقبلت آمنة مشورة والدي، لكنها اشترطت بأن يكون السكن في طابق أرضي رأفة بسالم الذي لن يقو على الصعود من خلال سلّم البناية، فقال خطيب حورية:
– محلولة ياخالة، عندنا ملحق في حوش العمارة أدوني شهر بس أجهزو ليكم ان شاء الله، وتم الزواج…
يومها رايت جل أهل كسلا يضج الفرح من أعينهم، ويأتلق الاعزاز بهذه الأسرة النبيلة على محيّاهم، لكن رأيت الحزن جاثم في عيني الخالة آمنة، ترجمته دمعتان تتحدران من ثنايا شلوخها المطارق العراض،
والخالة آمنة عُهد عنها تفسير الأحلام في الحي، واعتادت النساء القدوم إليها من الأحياء الأخرى لتفسر لهم رؤاهم…
وان نسيت فلن أنس رؤية رأتها بنفسها أخبرت بها نساء الحي قُبيل زواجها من العم سالم حيث قالت:
رأيت نفسي مساء يوم من الأيام أقف على شط القاش فاذا بطائر مصاب في جناحيه يسقط أمامي، لتتدحرج منه -تحت رجلي- خمس جواهر شديدة اللمعان في ضوء القمر، وعندما سعيت إلى جمعهن وحملهن على طرف ثوبي، سقطت أحداهن وانكسرت، ونهض الطائر مستجمعا قواه، ثم طار -متثاقلا- إلى الضفة الأخرى ليأتيني بعصى من عاج الفيل!
وعندما سَأَلْنَها عن تفسير الحلم قالت:
لعل الله مقدر لي أن أتزوج من رجل به علة في يديه أو رجليه، فأنجب منه خمس بنات، تموت احداهن، ثم أنجب ابنا بعد ذلك، وذاك هو عصا عاج الفيل!
وتمر السنوات، ويتحقق الحلم!
تتزوج آمنة من العم سالم الكسيح، فتنجب من البنات خمس يتوفى الله إحداهن، وبعد حوالي العشر سنوات تنجب ابنا، هو آخر العنقود أسامة…
لكأني بها ماثلة أمامي الآن، بابتسامتها المرسومة على وجهها النبيل، لاينأى بها عن محياها حزنٌ ولا غضب، جاءتها ابنتها التي تلي حورية يوما تبكي بحرقة وقد عنفها معلم مادة الرياضيات مع رصيفاتها في الفصل وقد قال لهن:
– يابليدات، مافي واحدة فيكن حتنجح في إمتحان الشهادة الجاي دا…
فقالت آمنة وهي تربت على رأسها:
– قومي يابتي وغسلي وشك دا، أنا وحات ربي مالية يدي منو إنو مافي واحدة فيكن حتسقط في امتحان أو تشقى في الدنيا دي…
ثم التفتت إلى والدتي وأعادت لها سرد تفاصيل حلمها، وتخيرت منه إئتلاق الجواهر في ضوء القمر!…
وبالفعل تنجح سميرة، وتجتاز الامتحان، وكذلك تنجح الأخريات، ويستقوي الوالدان بنجاح البنات، فيجهدان الليل والنهار لا يكلان ولايملان في سبيل توفير احتياجاتهن مهما غَلت وازدادت…
قال العم سالم وهو يستلقي على جنبه ليبرم حبلا وهو يلاطف آمنة وهي توشك على اكمال الدائرة الأخيرة من طبق مدفوع القيمة من زوجة مدير مدرسة الكارة الابتدائية:
-تعرفي ياااا أمونة، لو ما كنتي عرستيني ماااا كان أظني عرستني مرة لي يوم الليلة.
فتضحك آمنة وتقول:
مالك آيابة الناقصك شنو من الرجال، الوليدات والحمدلله جبتهم، والشغل تراكا ييدا الماك محوجنا في شي والله…
ثم أردفت:
-ربنا يطول لينا في عمرك ياأبو أسامة ويديك العافية…
فإذا بدمعتين تتحدران على خديه وقال:
-والله ياآمنة انتي ملاك ماكي بشر، انتي ملاك…
فنهضت آمنة ومسحت دموعه بطرف قميصها وقالت ضاحكة:
انتا شكلك خرمان ليك لي جبنة، كدي اللمشي اسويها وأجيبا ليك…
يااااه
ياللعوالم التي تكتنف سوح من هم مثل آمنة وسالم!…
هؤلاء، القِيَمُ -لديهم- تمشي على قدمين، والسعادة -في ربوعهم-يقطر نداها صباح ومساء، فكما يكون للقمة وجرعة الماء طعم لدى الصائم، فإنهما لدى من هم في عوالم آمنة وسالم أشهى وأكثر ريّا!
لن أنس ماحييت ثمار الدوم إذ تأتي به آمنة فتضعها أسفل (الزير) اذ ليس لديهم تلاجة، لتعطيعها لبناتها بديلا عن الفاكهة بعد وجبة الغداء طوال أيام الاسبوع عدا الخميس والجمعة حيث تستبدله لهن بالموز…
أتتها يوما عمتي نفيسة ببعض ثمار المانجو من الساقية، وما إن ذهبت إذا بالبنات يهرولن إلى الفاكهة كي ياكلن منها، فما كان من آمنة إلا أن غضبت وقالت لهن:
– يابناتي البِتّاكَل في البطن دا كللللو واحد، ماتصغرن نفسكن، فلم تمس إحداهن ثمرة واحدة من تلك الثمار!
عندما أعلنت نتائج امتحان الشهادة، تحلق الجيران في دارنا حول المذياع لسماع اسماء الناجحين والناجحات،
وشرع المذيع يقول:
اليكم اسماء العشر الأوائل على مستوى السودان:
الأول…
الثاني…
الثالث…
الرابع مشترك…
فاذا بالسادس حورية سالم، فما كان من آمنة الاّ أن خَرّت ساجدة لله على تقروقة نسجتها بيديها من قبل، وضجّت الميرغنية بزغاريد النسوة، وإذا بزوج عمتي يأتي بكبش أقرن أملح ويأمر ادريس البرناوي الذي يعمل في الساقية بذبحه، واجتمعت لجنة الحي وقرروا جلب كل مستلزمات الاحتفاء على نفقتهم من دكان التعاون الذي يلي زاوية البرهانية…
يومها قالت آمنة وهي تُقَبِّلُ جبينَ حورية:
إن شاء الله ياحورية يابتي تبقي دكتورة وتعالجي الناس بالمجان، فارتمت حورية في حضن أمها تجهش بكاء، ثم قبلتها على رأسها ويديها ورجليها مؤمّنة على دعائها والضحكات تخالط دموعها…
ويومها رايت عم سالم يضحك كما لم يضحك من قبل، وإذا بإبن عمتي الذي يصغرني بعامين لايقوى على كتم ضحكة مجلجلة عند سماعه لضحكة عم سالم، فقال لي:
عاين عم سالم دا يضحك بالتقسيمة، وشرع يحاكيه:
اهي اهي أها اها أهو اهو.
فما كان مني إلا أن اقفلت فمه بيدي ودفعت به الى خارج البيت.
ما أجمل الصدق حتى في الفرح، وما أندى روحا تتخلل جسدا لامرء مثل عم سالم!
قال جارنا لوالدي:
– رأيت عم سالم يوما يحاول جمع بعض سعف الدوم في أطراف إحدى السواقي المحفوفة بأشجار الدوم، فإذا بصاحب الساقية يأتيه معنِّفا، ثم يضربه بسوط يحمله في يده، فلم يرد عليه عم سالم، وحث حماره وذهب …
قال جارنا:
ثم رايت عم سالم يرفع كفيه إلى السماء وهو على حماره ولم أسمعه ماذا قال، لم تمر دقائق الاّ وأتت عربة مسرعة فتصدم الرجل ليطير سوطه الى جانب الطريق ويفارق الحياة!
عم سالم برغم حاله ذاك كان يذهب الى أطراف حي الجسر ليملأ (أزيارا) لايعلم أحد من بناها!
فالرجل كان صامتا دوما، لم يسمع أحد في الحي له صوتا، بل كان العديد من أهل الميرغنية والسوريبة يحسبونه أبكما…
أما أنا فكنت أعرف عنه الكثير، فالرجل يحفظ الكثير من سور القرآن، وقد آتاه الله صوتا عذبا نديا عندما يتلو القرآن آناء الليل، وكم كنت اعشق سماع صوته وهو يتلو سورة طه…
قلت له مرة:
ياعم سالم عاوزك تعلمني تلاوة القرآن، فلكأني به تفاجأ بذلك، فما كان منه إلا أن سألني بصوته الذي تتخلله تلك ال(تمتمة) المحببة:
-أأأ إنتا يااااولدي القاليييييك منو أنا بعرف أأأا أتلو؟!
فأخبرته بأنني اسمعه من خلف جدارنا الذي يلاصق بيته، فإذا به منذ ذاك اليوم أصبح ينام في الجانب الآخر من البيت، كي لا أسمع صوته وهو يتلو القرآن!
وقبلت حورية في جامعة الخرطوم بكلية الطب، وبانصرام العام الأول تصبح الأولى على دفعتها، وما لبثت أن التحقت بها شقيقتها سميرة بذات الكلية وذات الجامعة ال(جميلة ومستحيلة) كما يحلوا للناس تسميتها…
قال عم عبدالرزاق الزبيدي يوما لعم سالم وهو يمازحه:
-بالله ياسالم عندك بنتين بيقروا الطب في جامعة الخرطوم؟!
فما كان من عم سالم إلا أن ابتسم وتمتم بكلمات لم يستطع عم عبدالرزاق سماعها، لكنني كنت قديرا على سماع وفهم عم سالم حيث سمعته يرد عليه ويقول:
-الله دا بِدِّي الجنة.
وعدت الى البيت لأجد الخالة آمنة تصيح بالعابرين أمام بيتها بأن ياتوا ليطعموا من بليلة العيش/الذرة بالسُّكَّر…
فقد اعتادت عمل تلك البليلة كلما افاء الله عليها بخير او تغشتهم فرحة،
والحق أقول بأن نكهة تلك البليلة الرائعة وطعمها لم يزل في فمي إلى يومي هذا، ولا أدري أكان ذاك الطعم وتلك النكهة مرتهنة بطبيعة مكوناتها من الذرة الرفيعة والسُكّر، أم كان الأمر مرتهنا بكَفِّ ويدِ الخالة آمنة!…
فكم من طعام تصنعه النساء بذات المواد وذات المقادير ولكن يبقى المذاق متباينا تباينا كبيرا!
عُرفت آمنة بطعامة اليد بين نساء الميرغنية طُرّا،
والناس في ذاك العهد ماكانوا يعمدون الى كوكتيل أو يجلبون طباخا خلال أفراحهم وأتراحهم، إنما اعتادت نساء الحي اعداد طعام المناسبات بأنفسهن، والخالة آمنة كانت لها مكانة خاصة بين النسوة، إذ يسعى أهل أيما مناسبة إلى دعوتها في مقدمة النساء كي يضمنوا جودة الطعام الذي سيقدم إلى المدعوّين، فهي أفضل من تجهز الكمونية بين النساء، وهي كذلك أفضل من تقترح وتصنع السلطات بينهن، أما المحاشي فقد كانت تبدع فيها أيما ابداع:
محشي الطماطم…
محشي الكوسة…
محشي الباذنجان…
محشي الفلفلية…
محشي…
انها لعوالم من المحاشي!
وإن نسيت فلا أخالني أنس يوما طبقا اعتادت أن تعده لوالدي رحمه الله كلما عاد من بورتسودان حيث كان يعمل في مستشفاها العام، كانت تطلب منه احضار نبات القرنبيط أو الزهرة كما يسميها البعض، وهي زهرة بيضاء كثيفة اللب تشبه الى حد ما نبات عُش الغراب، لكنها أكثف لُبا وأكبر حجما، تقطع تلك الزهرة إلى قطع صغيرة ثم تخلطها بفُتات الخبز بعد تجفيفه وتحميصه في النار ولعله يسمونه اليوم بال(بقسماط)، حيث يخلط بالبيض لتغمس فيه قطعة الزهرة ثم تُقليها على نار هااادئة، ولأول عهد لي بذاك الطبق ظننت أني أأكل قطعا من السمك، فإذا بهم يعلموني بأنها زهرة القرنبيط قد أحالتها الخالة آمنة إلى الذي أراه وأستمتع بطعمه!
هكذا ياأحباب ابن آدم، إن رضي الله عنه يُلهمه من لدنه أشياء يرضى بها عنه كل عباده!!
وكذلك كانت الخالة آمنة، لا أزكيها على الله فالله حسيبها، لكنني أحسبها من المرضيُّ عنهن من فوق سبع سماوات…
لم أكن أر الخالة آمنة ترافق والدتي والنساء الأخريات يوما لزيارة ضريح (سيدي الحسن)، حيث كانت تقول:
-ربنا دا مامحتاج ليهو لي واسطة.
لذلك كانت نساء الحي يسمينها بالأنصارية…
سألت الوالدة يوما:
-يا أمي انتي ليه الناس بيقولو لي خالتو امنة انصارية؟
فاجابتني:
-لأنها منكرة ناس سيدي وتابعة لي أنصار المهدي، لكن لم تقنعني إجابة الوالدة، فما كان مني إلا أن سألت الخالة آمنة عن ذلك، فأجابتني بأنها لاتتبع لا إلى الأنصار ولا إلى سواهم، ثم قالت وهي تربت بكفها على رأسي:
-ياعادل ياجناي ربنا دا قال تعبدوني ولاتشركوا بي شيئا، الناس الله يهديهم بيمشوا الضريح وبينذروا وبيتبركوا وبيدعوا هناك، ودا كلللو شرك بالله، مالو الزول لو قعد في برش صلاتو دا ورفع يدينو ودعا ربو؟!
فما كان مني إلا أن رسخت كلمات الخالة آمنة في وجداني، فإذا بي مذ ذاك أشنأ القباب والأضرحة وكل ما يكتنف ذلك -الا ضريح الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه- إلى أن يسر لي الله فرصة للدراسة وتبين طريق التوحيد الحق بحمد الله.
تخرجت حورية كبرى الصبايا طبيبة في جامعة الخرطوم، وتقدم لها ذاك الطبيب إبن الأسرة الثرية التي تمتلك العمارة في حي الرياض بالعاصمة الخرطوم، ثم كان اشتراطها الأوحد بأن يأت لها بأسرتها الى الخرطوم وكما اسبقت لم يتأخر ابن الاصول في ذلك…
وكما بدا فقد كان رفض الخالة آمنة في البدء خشية على مشاعر زوجها سالم الذي تعلم خباياه يقينا، تعلم ذلك بنظرة إلى عينيه فقط…
قالت لوالدتي:
سالم دا انا عارفااااهو ماهو داير واحدة من البنات او اخوهن يتعقدوا من نظرات الناس ليهم بي سببو في الخرطوم!
وجاء خطيب حورية ومعه أهله، وتمت مراسم الزواج دون عم سالم الذي تمارض واستلقى على عنقريب قصي داخل البيت، وعندما خاطبه خطيب حورية راجيا إياه بأن يسافر معهم إلى الخرطوم ليتعالج هناك، ماكان منه إلا أن رفع يده دلالة على رفضه ذلك، فما كان من الخالة آمنة الا أن قالت باسمة:
-قلت ليكم عمكم سالم دا جنو وجن الدكاترة، فكدي خلوهو هسي انا بتفاهم معاهو بعدين، آمنة تحفظ عن ظهر قلب كل ايماءات زوجها فتحقق له مراده دون أن يطلب، ما كان منها إلا أن جمعت حولها بناتها وكذلك ابنها الاصغر أسامة وقالت لهم:
-شوفو، العَقِد حيعقدوا أعمامكم ديل، وابوكم دا خلوهو علي راحتو…
وتم العقد، ومافتئ زواج حورية الى يومنا هذا يوما يؤرخ به أهل الميرغنية.
وانتقلت الأسرة إلى الخرطوم، وإذا بالخالة آمنة تنجح في إقناع عم سالم بالإنتقال معهم إلى الخرطوم، ولكن بعد أن نفذت له شروطه وهي:
1-عمل مدخل خاص ومنفصل لمكان سكناهم لاتكون له علاقة بمدخل العمارة الأساس، بحيث يكون دخولهم وخروجهم بعيدا عن أنظار زوج حورية وأهله…
2-أن لاينقطعا عن مهنتيهما في كسلا، حيث تترك الأبناء في الخرطوم وتبقى معه لشهر في كسلا ثم يذهبان سويا إلى الخرطوم بإنتاجهما من عمل يديهما لبيعه هناك، وكل ذلك بدون علم زوج حورية وأهله…
3- ان تقسم بالله أن لايصرف زوج حورية عليهم (مليما أحمر) هكذا قال…
لله درك يا آمنة!
ف الأسماء قوالب للمعاني ومامن أمرء إلا له وصل بمن حمل ذات الإسم من قبله، ولاغرو أن بركة آمنة بنت وهب ستظل تنداح في الدُنا سوحا وفضاءات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها…
حقا لقد كانت الخالة آمنة أمة في النساء، أمة في اخباتها لله، وفي نصاعة توحيدها برغم أميتها!
أمة في التواؤم مع حراك حياة ذاخرة مع زوج فقير مقعد أحالتها إلى نجاحات ذات بريق!
أمة في ذكائها وادراكها ووعيها وقدرتها على حسم المواقف إيجابا!
أمة في دِرْبَتِها وإجادتها للأشياء حتى اصبحت مقصد النساء برغم أميتها…
وسافر العروسان لقضاء شهر العسل، ثم توجها إلى شقتهما في مسكن أهل الزوج الكائن في حي الرياض بالخرطوم، بينما سبقتهما الأسرة إلى الملحق الذي هيء لهم أسفل العمارة، وما أن عاد الزوجان من القاهرة إلا وشرع عم سالم في التبرم وإعلان نيته للعودة إلى كسلا، فاستجابت لذلك آمنة برغم اعتراض حورية:
-ياامي لاااااازم تقنعي أبوي دا يقعد خلاص هنا ومايتّلتل تاني ويتلتلك انتي كمان معاهو.
-ياحورية يابتي، أبوكي دا كويس إنو جاملنا وجا معانا لغاية هنا، أنا والله كنت عارفاااااهو مابيقدر علي قعاد البلد دي، فكدي ودعيهو، أنا وهو بكرة إن شاء الله حنرجع سوا ونخلي اخواتك ديل في وداعة الله هنا تحت، وتراهو أسامة اخوكي معاهن…
بكت حورية ماشاء الله، ثم التفّت الأسرة حول الوالد وأمضوا معا ليلة سعيدة في وجود حورية التي ما إن أزف منتصف الليل إلا وقال لها أبوها:
-اطلعي يابتي لي راجلك فوق وابقيلو زي ما أمك دي كتر خيرا باقيالي…
وانطلقت آمنة بزوجها سالم صوب كسلا وما إن وصلا ظهر اليوم التالي إلا ونهيق الإتان مختلطا بتأتأة اعلمها يقينا تشي بأنهم عادوا…
فهتفت فرحا:
ناس عم سالم جو…
ناس عم سالم جو…
فانتهرتني امي قائلة:
-ياولد هي، ناس سالم شنو البجيبم تاني من الخرطوم، وحتى البيت سكّنوا (بتشديد الكاف) فيهو الولد قريبم دا؟!
-والله العظيم ياامي دا صوت عم سالم، وبعدين حمارتو دي مابتهونق إلا تشوف عم سالم…
وخرجت الوالدة وتبعتها فإذا بعم سالم مسنودا على كتف الخالة آمنة يلجان إلى دارهما، فعادت امي وجهزت لهما طعاما ثم ذهبنا إليهما، وعندما سألتها أمي عن سبب عودتهما قالت:
-تقولي شنو يابت امي سالم دا انا عارفااااهو الخرتوم دي مااااابتبقاليهو، وبيني وبينك اصلا مشيَتو معانا كانت بالجلالة وبعد تعب شديد حتى اقنعناهو، ومن يومو قال نقعد هناك شوية وهنا شوية…
ثم أسرت آمنة لأمي وقالت:
-والله انا الجية دي قلبي مقبوووووض منها يامريم ماعارفا ليه، وسالم دا ماعارفاهو فرحان بالرجعة دي قدر دا لي شنو!
فطمأنتها والدتي وقالت لها:
-عاد ياآمنة كسلا دي ياها بلدو القام واتربى فيها، خرطوم شنو البتقع ليهو!…
جففت آمنة دمعة انسربت من عينها بطرف ثوبها وقالت:
-الله كريم علينا يابت امي…
وما إن أزف العصر، خرج عم سالم تحمله الإتان إلى حيث دوم فقيري على أطراف الميرغنية مما يلي ضفة القاش الغربية ليباشر عمله، وينصرم الأسبوع وعم سلام يجتهد كما لم يجتهد من قبل في عمله، ومعه شاب خلوق، هو قريب للعم سالم، يتيم أتى به من أريتريا، وكأني به من هيئته واهابه ذااااات عم سالم في شبابه، ولكن دونما شلل الأطفال الذي أقعد العم سالم…
وما إن انقضى الأسبوع حتى حدثت الفاجعة!
يومها، تحامل عم سالم على ساقيه النحيفتين وترك قريبه الشاب يكمل غمس سعف الدوم في براميل جعلها لهذا الغرض، ثم انطلق يخيط الأرض بساقيه الواهنتين،
ذهب إلى أزيار السبيل الموضوعة في الجهة المقابلة من ساقية فقيري مما يلي عدوة الطريق المودي إلى كبري القاش، فشرع يغسلها بيديه من الداخل ليزيل عنها مالصق بداخلها من طمي وطحالب، ثم تناول إناء واتجه الى الحديقة الكائنة على الجهة المقابلة للطريق ليملأها من مصدر ماء نسميه الطرمبة، حيث يضع المرء الإناء أمام صنبورها ويتجه إلى ذراعها في الجانب الآخر ويمسك به بيديه وينزله إلى الأسفل، فياتي الماء من صنبورها.
أخذ عم سالم إناء الماء واجتاز الطريق، ثم أفرغه في جوف الأزيار وفعل ذلك لمرات حتى أكمل ملئها، ثم قفل عائدا إلى قريبه الشاب…
ما إن وصل العم سالم إلى حيث ترك غلامه إذا به يجده ملقى على الأرض بجانب أحد البراميل وهو يمسك بساقه متالما، فعلم بأنه قد لدغ من ثعبان سام، فمد يده بسرعة إلى مدية اعتاد تعليقها في زنده وأمسك بساق الغلام ثم فصد/جرح مكان اللدغة، وجعل يمتص الدماء بفمه ويبصقها على الأرض…
ومضت هنيهة فإذا بالغلام قد استكان قليلا وزال عنه الألم، فاستلقى على ظهره.
انتحى عم سالم جانبا فإذا به يتبين وجود جرح في فمه، فعلم بأنه لامحالة هالك، فهو يعلم يقينا بأن مص سم هذا النوع من الثعابين يشترط فيه أن يكون الفم خال من أيما جرح…
فالتفت إلى الغلام فإذا به برتجف فهم بأنه موشك على الموت، فانكفأ عليه يغمض عينيه ويلقنه الشهادة…
وإذا بالدوار يصيب عم سالم، وإذا بالبرودة تتمشي في أطرافه، وأراد أن ينادي عسى أن يسمعه أحد بالجوار فلم يستطع، فأخرج ورقة وقلما وكتب تفاصيل الذي حدث له ولقريبه، ثم استقبل القبلة وسجدلله املاً في أن يلقى الله وهو ساجد…
قال مزارع من أبناء البرنو كان بالجوار:
-رأيت عم سالم وكأنه ساجد وقريبه يرقد على ظهره، وعندما ألقيت عليهما السلام ولم أسمع منهما ردا جئتهما فإذا بهما قد فارقا الحياة، وهذه الورقة والقلم بجانب جثمان عم سالم.
ووصل الخبر، أزرق طويل الباع إلى الخالة آمنة…
كم كان وقعه عليها أليما، لكنها احتسبت وصبرت واستمسكت بحبل الله…
ثم قالت بعد سنوات عندما زرتهم:
-والله سالم أبدا ماغاب من خيالي لحظة وأنا وسط وليداتي، مافي رأي أو قرار اتخذو وإلا استشيرو في خيالي، وكل ما انوم يديني رأيو ودايما يكون صاح…
ألا رحمك الله يا خالة آمنة…
لقد كان الخلف طبيبات أربع ومهندس كيميائي اختير معيدا في جامعة الخرطوم بعد أن توالى حصوله على الإمتياز مع درجة الشرف الأولى، إلى أن اقترن اسمه بالدال…
انتهت
adilassoom@gmail.com