مقالات

البت سعاد دقت الدلوكة قلنا الدنيا مازالت بخير

بقلم / عادل عسوم

البت سعاد

دقت الدلوكة قلنا الدنيا مازالت بخير.

هذه الأغنية تعد عمل مسرحي بديع لما ذخرت به من صور حية في سرابات كلماتها وعراجين ثمارها،

وأخال كابلي عند تلقيه لكلمات هذه القصيدة -الآتية على مجزوء الوافر- كانت لديه العديد من الصور الايقاعية واللحنية لتأسيس اللحن عليها:

1- الرقي

2- التُم تُم

3- المردوم

4- الدليب.

لكنه -ولسبب ما- اختار لها (الدليب) ايقاعا وقالبا لحنيا.

 يا تُرى لماذا؟!

لننظر إلى ابتدار القصيدة:

دقّتْ الدَلّوُكَهْ

قُلنا الدنيا ما زالت بخير

أهو ناس تعرِّس وتنْبَسِط.

بلا جدال فإن ايحاء لفظة الدلوكة هنا، حريّ به أن يدفع بالذي يتعامل مع هذا النص إلى سمت الايقاع الذي يتسق مع عوالم الدلوكة، والنص يحكي عن مشهد من مشاهد حفل غنائي من بيئة أهلنا الجعليين الذين ينتمي اليهم شاعر القصيدة الراحل عمر الطيب الدوش، لكن كابلي -الذي عاش في مروي سنوات من عمره- سعى إلى إيساع زاوية النظر فتعامل كامل بُنية النص فاختار ايقاع الدليب الذي رآه أكثر قدرة على التعبير عن مكنونات النص وترجمة الصور المرسومة فيه إلى واقع مشاهد غني بالحراك الحياتي…

ولعل كابلي استصحب في خاطره بديعته التراثية (فيكي يامروي شفت كل جميل) لترجيح ختار إيقاع الدليب لهذه القصيدة الماتعة…

فإيقاع الدليب وزخم الصورة الملحمية الادائية التي تسم عوالم أغنيات الطنبور له سحره على كل الأعمال الغنائية التي بنيت عليه، مما دفع بالعديد من مبدعينا -ممن لاينتمون إلى حاضنة هذا الايقاع الجغرافية- يعمدون إلى إدراجه في قوالبهم اللحنية، وفي مقدمة هؤلاء راحلنا وردي وآخرون كثر…

لنقترب أكثر إلى سوح هذا العمل الفني البديع وفضاءاته فنقرأ معا هذه الجزئية:

تكْكَّتَ سروالي الطويل

سويتْلُو رقعات فى الوسط

فى خشْمِي عضّيت القميص

أجرى وازبِّد شوق وانُط

لا مَن وصلتَ الحفلَهْ زاحمتَ الخلق

وركزْتَ شان البِتْ سُعاد.

المشهد هنا أجد فيه شبها بمشهد آخر لشاعر مبدع آخر هو صديقي السر عثمان الطيب في ثنايا قصيدته الخالدة التي غناها الراحل محمد كرم الله وهي بعنوان (المشتهنك) حيث يقول:

حارسين شويفعنا البجيب لينا البشارة يجيب أمل

يجري ويناهد من بعيد شايلو شنطة وبي عجل

يفرح يقول خليتو جاي وراي يسالم في الاهل

والساعة ديك عاد البلد تنجارا قاصداك يا السمح

والناس توسوس لي بعض يي داك وصل والله صح

حتي اللي كان محزون وباكي اليلي عاد هش وفرح

بي يوم رجوعك يا حبيّب روحنا تب يبرا الجرح

مبدعانا الشاعران المُجيدان الطيب الدوش والسر عثمان الطيب رسما بالأحرف مشهدين بالحراك والصور الحياتية، وهنا يلزم أيما ملحن يود التعامل مع إحدهما احسان إختيار الإيقاع والقالب اللحني الذي يستجيب ويترجم هذه الصور الحياتية المبثوثة في كل منهما لتكون المحصلة عملين رائعين تتكامل في كل منهما عناصر الإبداع من كلمات ولحن وأداء…

احساسي ينبيني بأن كابلي عندما وضع نص البت سعاد بين يديه ليشرع في تلحينه كان لتوه عائد من عوالم مروي التي عمل وعاش فيها لسنوات وعاشر أهلها و(اندغم) في بيئة المكان وكتب عن شخوصه وشارك في العديد من الفعاليات تحدثا وغناء، ولعلي اقتبس بعضا مما كتبه كابلي عن ذكرياته في مروي حيث قال:

(ولا بد لي من أن أذكر الفنان “بنده”، صاحب الصوت الجهوري، وقد استمعت إليه بإعجاب كبير، وهو يغني على آلة “الدلوكة” الإيقاعية العديد من أغنيات أهلنا الشايقية، وبينها أغنية “بوبا عليك تقيل” التي ضمنتها في أغنيتي “فيك يا مروي”، وهي أغنية تراثية”).

انتهى

ومعلوم أن غناء الشايقية متميز بالشعر القصصي المشهدي الروائي

ولأن كانت رائعة السرير ومحمد كرم الله فعلت ذلك، فإنني على بقين بأن ماتعة كابلي هذه لاتقل عنها إبداعا، ولعلي أقول بأن هذا العمل الفني ظُلم فيه الدوش وكابلي معا ظلما بائنا لكونه لم يحظ بما يستحقه من تثمين ورواج، لا أنكر بأن نظرتي إلى هذا العمل – والذي جمع مالا يُجمعُ – لا تخلو من الارتهان بأمر شخصي، حيث جدتي أم الوالد رحمهما الله جعلية من منطقة المتمة واسمها الزهرة بت الشريف ابوسَم، بينما قوام أهلي شايقية من البركل، وقصيدة إبن شندي الراحل عمر الطيب الدوش بما فيها من صورٍ مأخوذة من عمق الحياة الجعلية وصفاً لمشهد هذا (الفرح) وما يكتنفه من (بُطان)، ثم مآلُهُ من لحنٍ أسسه كابلي على إيقاع الدليب وهو -أي كابلي- الذي لا يمت لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك الاّ بوصال الوطن الجميل؛ أحسبه يضيف إلى استحساني وإعجابي بهذا العمل بعدا آخر وسعة في زاوية نظري إليه.

إنه موناليزا/ جيوكاندا غنائية

تزاوج بين مشاعر ومظهر الحُزن والفرح معاً، تماما كما زاوجت لوحة ليونادو دافينشي بين الإبتسام والحزن، وشتان مابين الحزن والفرح!

راحلنا عمر الطيب الدوش في هذا العمل لا يبدو لي ذات الدوش الذي كتب روائع وردي من أمثال الود و الحزن القديم وبناديها، ولعلي إن أعطيت فرشاة وألوانا وطلب مني رسم صورة للشاعر الذي كتب ماتعات وردي هذه لرسمت شاباً كثيف الشعر يلبس بنطال جينز أزرق وقميص لونه بيج أو بنفسجي،

أما ان طلب مني رسم الشاعر التي أتحفنا بالبت سعاد لرسمت رجلا تعدى منتصف العمر بسنوان يتزيا بعراقي وسروال وسديري ويتدلى من خاصرته سيف بجفيره وبيمينه سوط عنج ابولسانين…

القصائد هنا وهناك لذات الشاعر، وذات الوجدان، وذات القلب الذي يحتقب الصورتين، هنا يكمن ادهاش ابتسامة الموناليزا…

والأمر إن جهدنا لتبيانه ليس بأمرِ قدرةٍ على التعبير عن المشاعر والاحاسيس بقدر ما هو أمر قدرة -فائقة- على الرسم بالكلمات، وراحلنا الجميل عندما تقرأ له ماتعات وردي، تكاد تجد الأحرف التي كتب بها تلك الأعمال المجيدة تكاد تعتمر لها جناحين لتطير تباعا كفراشات تنطلق من أصيص زهور، بينما تجد ذات الأحرف التي صاغ منها البت سعاد تتحول إلى شخوص من لحم ودم تراها أمامك تدب بالحياة حراكاً وحميمية…

كم يسمو بي الحزن القديم، وكم تطير بي كلمات بناديها،

وكم تهدهد كياني كلمات الود،

أما كلمات هذه الماتعة فإنها تشعل فِيّ صهيل افراس وتجعلني اتبين سودانيتي المتشاطرة مابين أهلي الشايقية وأهلي الجعليين، علما بأنني ولدت في اقاصي الشرق في كسلا، ثم أمضيت شطرا من طفولتي بين ظهراني أهلنا السكوت والمحس في جزيرة صاي، ولم أزل اتحدث النوبية.

adilassoom@gmail.com

يقين برس

صحيفة اللكترونية تهتم بالشأن السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى